بقلم: فـــؤاد مطـــر
اعتدنا كصحافيين في الستينات من القرن الذي مضى، وفي سنوات لاحقة، أن نبدأ في الربع الأخير من العام التحضير لتقليد اقتبسناه من كبريات المجلات والصحف الأميركية والأوروبية، وهو اختيار شخصية سياسية أو عامة، لتكون «رجل العام»، أو «سيدة العام». وكنا لا نشقى كثيراً في الاختيار، ذلك أن صانعي الأحداث المهمة قلة، والإضاءة على أحدهم ليست عسيرة.
ولم يحدث أن كان الاختيار حول ظاهرة تتقاسمها أكثر من دولة، على نحو ما حفل به عام 2019. وبذلك تصبح الظاهرة هي الشخصية، وليس رجلاً معيَّناً. كما يصبح بعض الجنرالات من ذوي الزهد جزءاً من شخصية العام. والظاهرة التي نعنيها هي انتفاضة الشعب؛ بدأت في السودان، وتلازمت معها انتفاضة من النوع نفسه في الجزائر، ثم إذا بلبنان يعيش انتفاضة غير مسبوقة، ثم ينتهي صدى هذه الانتفاضات الثلاث مجتمعة في العراق حتى إشعار آخر بانتفاضة آتية. وتتسم ثالثة الانتفاضات بالذات بأنها كانت الثانية التي يُراق فيها دم محتجين، وبأرقام عالية فاقت بكثير ما أُريق من دماء في الانتفاضة السودانية. وأما الانتفاضة التي لم يُرقْ على جوانبها دم، وبقيت خضراء إلى نهاية المطاف، فإنها الانتفاضة الجزائرية.
والفضل في ذلك، بعد العناية الإلهية، هو لحاميها رئيس الأركان الفريق قايد صالح الذي وضع اسمه على قائمة الجنرالات العرب الأكثر تميزاً وتعقلاً وبُعد نظر، وهما الجنرال فؤاد شهاب في لبنان والجنرال عبد الرحمن سوار الذهب في السودان، ثم تستقبل لائحة الشرف هذه الجنرال قايد صالح.
ولقد أكرم المولى سبحانه وتعالى الجنرالات جزاء زهد كل منهم في السلطة، فلم يخطفوها بانقلاب، ولا ورثوها بالرضا، مع الأخذ في الاعتبار أن الظروف كان مناسبة أمام كل منهم لكي يغادر اهتمامات الثكنات إلى هموم السرايات، ولنا في كل من هؤلاء ما يؤكد ما نشير إليه. جنرال لبنان رأى في تجديد رئاسة سعت إليه ما قد يقلل من رصيد معنوي وعسكري ارتبط بشخصه، فغادرها مرتاح النفس والضمير. ثم رحل مستقيم الرأي حريصاً أشد الحرص على لبنان وصيغة التنوع.
ثم ها هو جنرال السودان يلقى وجه ربه وهو في السعودية يخضع للعلاج، وتحدث غمضة العين الأخيرة بعد الاطمئنان إلى أن أمثولة زهده في السلطة وتسليم المقاليد إلى حكومة مدنية، قبل انقضاء الساعة الأخيرة من الموعد الذي حدده للتسليم، قد أثمرت، حيث لا مجال بعد الآن في السودان لغير الجنرالات الزاهدين، غير الساعين ولا المقبولين كتفرُّد وكبقاء إلى الأبد، وأن الشراكة العسكرية المدنية، وعلى نحو ما انتهت إليه الانتفاضة، هي الصيغة الوقائية البديلة التي تنجي السودان من ممارسات جنرالات الحاكم بأمر البلاد والعباد.
وكما أن نهاية جنرال لبنان كانت كريمة، فإن نهاية جنرال السودان كانت إلى جانب الحديث عن شمائل هذا الجنرال أن الملك سلمان بن عبد العزيز، وقد بلغه أن سوار الذهب أوصى بدفنه في المدينة المنورة، وجَّه بنقل الجثمان في طائرة خاصة... هذا عدا التعبير عن المشاعر الطيِّبة وطلب الرحمة له.
ويأتي الرحيل المفاجئ لرئيس الأركان الجزائري أحمد قايد صالح الذي الاسم على المسمى قائداً وصالحاً، فضلاً عن أنه ارتضى أن يكون حامداً شاكراً، فينجي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من شِرْك التمديد لرئاسته الذي نصبه له تزييناً واستغلالاً، في الوقت نفسه للحالة الصحية الميؤوس من شفائها، الأقربون والمنتفعون. ولقد أثمرت المعادلة التي رسمها الجنرال الجزائري القائد والصالح: تركَ الحراك الشعبي يسجل جولات من الاحتجاج في أبعد مدة، ومن دون أن تتأثر حياة الناس، ولا يتم قطْع الطرقات. وعلى مدى أسابيع، ألقى من الكلمات التي تجمع بين النصح والتمسك بالأصول واحترام الدستور ما لم يفعله جنرال عربي من قبْل.
واعتبر الدم الاحتجاجي خطاً أحمر، وبذلك لم يُصب أي احتجاجي جزائري بأذى، كما أن جولات الاحتجاجات انتهت بيضاء متميزة بذلك عن المآسي التي شهدها الحراك السوداني، الذي أثمر بعد سنة من الصولات والجولات أول شراكة مدنية - عسكرية تؤسس لهذا النمط من التغيير، حيث الحاجة في بعض أقطار الأمة ودول العالم الثالث عموماً لمثل هذا التشارك الذي يغني عن الصراعات والانقلابات والتوترات عموماً. ولقد أكرم الله خير تكريم الجنرال الجزائري، حيث إنه تُوفّي إثر سكتة قلبية مفاجئة، وتلك أرحم الميتات لمَن يسأم تكاليف الحياة في ثمانينيته.
وجاء الرحيل بعدما تحققت المعادلة التي رسمها بكل بنودها: إنقاذ منصب الرئاسة بانتخاب وفْق ما ينص عليه الدستور. قضاء لا ضغوط عليه، وأحكام بحق مقامات يتم على الفور تنفيذها. ردّ جمائل بوتفليقة عليه بمثلها: تكريس أمثولة برسم المؤسسات العسكرية العربية، وهي أن دور الجيش هو حراسة الوطن، وعند حدوث تناقضات بين أهل الحكم والناس يتم التصرف بحكمة، وبما تتضمنه الدساتير، وكذلك حماية الشعب في حال كانت هنالك موجبات ودوافع للاحتجاج.
تغيب شمس اليوم الأخير من عام 2019، ويشرق شمس اليوم الأول من عام 2020، وهنالك انتفاضتان لم يُحسْم أمر نهاية كل منهما، ربما نتيجة غياب الجنرال الزاهد والمتبصر، أو في انتظار ظهور مفاجئ لهذا الجنرال أو رئيس جمهورية يحترم نفسه وشعبه، وعندها نبدأ كصحافيين تدوين يوميات شخصية عام 2020، وهل هي صيغة حُكْم يرتضيها الشعب المحتج، وبفعل جنرال زاهد أو رئيس تعنيه إرادة الشعب واستقلالية الوطن، وتقديم الكرامة على المنصب، حتى إذا كان المنصب الأعلى.
وهذا ما بدأ يخطه برهم صالح في التاريخ السياسي والرئاسي للعراق المغلوب على أمره... ثم جاءت الأمثولة البرهمية تؤكد أن كلمة الإرادة الشعبية تتقدم على الأهواء الميليشياوية الملتحفة بالمذهبية. رحمة الله على «صالح الجزائر» أحمد قايد الجنرال، الذي أدى قسطه للعلا وللشعب الجزائري، وأعان الله «صالح العراق» برهم الرئيس على تثمير خطوته الشجاعة.