بقلم - فـــؤاد مطـــر
عادت بي الذاكرة نصف قرن إلى الماضي وأنا أتأمل عبْر الفضائية العربية يوم السبت 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 في الشبان الفلسطينيين واقفين على متن آلية عسكرية إسرائيلية كانت إحدى ثمار مغامرتهم الجهادية واقتحامهم ببسالة مناطق إسرائيلية على الحدود مع قطاعهم الذي لطالما قاسى ساكنوه من التجني الإسرائيلي بجميع أنواعه طوال عقود. كانوا فتية في غاية الفرح وهم يرفعون عَلم قضيتهم تغمرهم بهجة المفاجأة التي خطفت أبصار الملايين شرقاً وغرباً مشاهدُها المتلاحقة على مدى ساعات من عمليات نفَّذها مقاومون ينتمون إلى حركة «حماس» وشملت إلى جانب أَسْر مئات من الإسرائيليين المدنيين أعداداً من العسكريين بينهم ضباط رفيعو الرتبة نقلوهم إلى مخابئ وأنفاق في مناطق من غزة، وبحيث يكون هذا الصيد ثمن ورقة بعد أن تسكت صواريخ المدافع والمسيَّرات الفلسطينية في اتجاه مدن إسرائيلية من بينها تل أبيب نفسها وترد عليها بضربات صاروخية جوية متلاحقة إسرائيل الغارقة بكامل سياسييها وعسكرييها في هول المفاجأة، التي ليس في حسبانهم حدوثها، مع أن المفاجأة المصرية الساداتية يوم السبت 6 أكتوبر 1973 أحدثت ما يشبه الفعل الصاعق في نفوس القيادتيْن العسكرية قبل السياسية في إسرائيل.
وتشاء الأقدار أن الفعل المفاجئ الفلسطيني «الحمساوي» يتزامن حدوثاً مع الفعل المفاجئ المصري الساداتي. كلاهما يوم السبت من أكتوبر، وبين الأول (1973) والآخر (2023) نصف قرن عربي كان عاصفاً بالانقلابات والتقلبات وبالقمم التي أبقت على شعلة القضية عصيَّةً على الانطفاء والتي من أجْلها كانت الاندفاعة «الحمساوية» الشجاعة تبدأ في اليوبيل الذهبي للاندفاعة الساداتية الشجاعة هَدياً بها أو اقتباساً لروحيتها ولحسن التخطيط إلى جانب التشوق القومي إلى نصر يُثلج الصدر العربي المحتقن خيبات. كأنما هذا السبت وبذلك التاريخ من الشهر سيذهب يوماً عربياً من حقبة إلى حقبة تنتهي بوضع الحق في مكانه والعدل في مجراه وعلى نحو ما توصي به الشرائع السماوية. وأجد الذهن يُشحذ واضعاً أمامي كلاماً سمعتْه من المشير أحمد إسماعيل، وزير الحربية المصري (تم تعديل التسمية لاحقاً بحيث باتت وزارة الدفاع) في حوار مطول أجريته معه في مكتبه ليلة الخميس 3 أكتوبر 1974 (نُشر في صحيفة «النهار» في اليوم التالي) لمناسبة ذكرى السنة الأولى للحرب، وبحضور مساعده وقائد الجيش الثاني خلال الحرب اللواء سعد مأمون. وفي سياق الكثير من إجاباته ركز المشير على أهمية توظيف النصر سياسياً على عنصر المفاجأة التي يراها مفتاحاً لكسْب الحرب وعلى أن المقاتل، وطنيةً وسلوكاً وإيماناً، أهم من السلاح. ولقد انطلق في تحليله المطول للأمور الثلاثة على خلفية عدم ذهاب القوات المصرية إلى آخر المطاف بالنسبة إلى ثغرة الدفرسوار التي بدا استحواذ الإسرائيليين عليها إنقاصاً من مهابة الانتصار الكامل للجيش المصري في حرب 6 أكتوبر 1973. ومن جملة ما قاله في الأمر المحيِّر لتلك الثغرة: ولماذا لم يتم ضربها «أمس كنت أتحدث في الموضوع نفسه مع أحمد بهاء الدين، ولقد أكدتُ له وأريد أن أكرر تأكيدي لك أن موضوع الثغرة لم يكن مسألة صعبة بالنسبة إلينا كعسكريين. وها هو اللواء سعد مأمون يجلس إلى جانبك لقد عيَّنته ليصفِّي أمر الثغرة...»... وبتعليق من جانبي يأخذ في الاعتبار مكانة مَن استقبلني ومكان إجراء الحوار قلتُ للواء سعد مأمون: «ليتك أنهيت موضوع الثغرة فلو انتهت ماذا كان سيبقى لإسرائيل».
لكنَّ المشير إسماعيل قال إن الرئيس السادات «ارتأى أن يسحب العدو جنوده بعدما أدرك أن الوضع ليس لمصلحته أبداً...»...
ما يراد قوله في ضوء هذا الاستحضار أن استلهام حركة «حماس» الرمز المعلَن للجولة القتالية المبهرة يوم 6 أكتوبر 1973 لجهة المفاجأة والإصرار والثقة بالنفس وعدم إفطار المقاتل المصري مواصلاً صوم رمضان، يستوجب العمل على توظيف يعوّض ما اقترفته إسرائيل ماضياً وحاضراً في حق الشعب الفلسطيني، وبالذات مع فلسطين الغزاوية التي تغرد خارج سرب السلطة الوطنية التي تمارس دور «الدولة» المستعصي استيلادها... إلا إذا بادرت «حماس» المزوَّدة ماضياً باقتراعٍ لمصلحتها في الانتخابات، إلى توظيف مفاجأتها الحربية المبهرة وعلى نحو ما فعلتْه مصر في موضوع الثغرة التي أفسح عدم تصفيتها في المجال أمام إمكانية التوجه نحو التسوية السلمية. وهذا كان وارداً وممكناً على نحو ما استحضرناه من كلام قاله لنا المشير أحمد إسماعيل قبل 49 سنة. والتوظيف كما يمكن تصوره هو بعدم التفريط في حياة الأسرى لديهم وتسليمهم إلى الدولتيْن (مصر والأردن) المتعاطيتيْن عملياً مع إسرائيل بموجب اتفاقيات سلام وإبداء الاستعداد من جانب كلتيهما لتبريد أزمات فلسطينية - إسرائيلية تنشأ، فضلاً عن أن ورقة الأسرى هذه من شأنها في ضوء التناغم السياسي الإقليمي السعودي - الإيراني - التركي - المصري - الخليجي عموماً إخراج صيغة الحل وفق مبادرة السلام العربية من الصندوق المقفل عليه بمفاتيح التصلب الإسرائيلي الذي لم يعد مبرَّراً بعدما أذابت الهجمة «الحمساوية» الكثير من تمثال التشاوف الإسرائيلي على العرب وعدم التقاط ملامح الانفتاح على التعايش مع إسرائيل كدولة في المنطقة. وهي إذا كانت لن تعيد قراءة في العمق لمواقفها فإن ما هو آتٍ قد يكون الأكثر حسماً ولو بعد نصف قرن آخر أعقب التسوية المصرية - الإسرائيلية التي جاءت توظيفاً من جانب الرئيس (الراحل) أنور السادات حربه (اتفاقية كامب ديفيد بتوقيع السادات ومناحم بيغن والشاهد الأميركي الرئيس جيمي كارتر الذي أكمل العام المائة من العمر قبل أيام). وما نقصده بما هو آتٍ قاله المشير إسماعيل في الحوار الذي أجريته معه وبصريح العبارة: «إننا لا نتصرف على أساس أن المعركة انتهت. إنها ستظل مستمرة ما دامت هناك أرض عربية يحتلها العدو الإسرائيلي...»...
ويبقى القول في ضوء الهولوكوست التدميري الانتقامي، حجراً وبشراً، رداً على الثأر «الحمساوي» الغزاوي، وقَى المولى، عزّ وجلّ، تداعيات هذا الهولوكوست الذي لن يكون في أي حال العلاج الشافي للفعل الفلسطيني الذي تأخر حدوثه وعلى نحو مواصلة إسرائيل التأخير في الأخذ بصيغة الدولتيْن التي تُنجيها من جولات لاحقة ربما تكون أكثر صعقاً من تلك التي أربكت صوابها يوم 7 أكتوبر الفلسطيني توأم 6 أكتوبر المصري. والله المعين.