بقلم: فـــؤاد مطـــر
قد يبدو عنوان هذه المقالة كما لو أنه عنوان رواية، وأن العنوان هذا مجرد صياغة إبداعية من جانب الروائي، أو أنها للتشويق على نحو ما هي مضامين الأعمال الروائية؛ لكن إذا نحن خلدنا في خلوتنا المفروضة علينا من «كورونا» ومعها الأجواء الرمضانية التي يبلغ التأمل فيها مداه، واستحضرنا بالتالي ما يجري في ليبيا، لخلصنا إلى استنتاج أن حالة هذه البلاد التي يخالط شرائح عريضة من بني قومها - أهل المدن والديار القبائلية على حد سواء - الحنين إلى الزمن السنوسي، وفي الوقت نفسه الترحم على الزمن القذافي، تُماثل حكاية الشاة الشاردة عن قطيعها والذئب الذي يريد افتراسها.
ففي هذين الزمنين المتناقضين كانت ليبيا رقماً مهماً في لوح الأرقام ذات التميز. وكانت تشكِّل مصدر مساندة في القضايا التي تعني الأمة. وفي الذاكرة مشاركة الملك إدريس السنوسي بثلاثين مليون جنيه إسترليني، إلى جانب السعودية بخمسين مليوناً، والكويت بخمسة وخمسين مليوناً، في خطة الدعم المالي الذي أقرته القمة العربية الاستثنائية في الخرطوم (سبتمبر/ أيلول 1967) ضمن برنامج إزالة آثار عدوان حرب 5 يونيو (حزيران) 1967. كما في الذاكرة وقفة القذافي إلى جانب أشقائه القادة العرب، إلى جانب مصر ورئيسها أنور السادات في حرب رمضان 1973.
في زمن ليبيا الجماهيرية، واجه القذافي الحراك الإخواني الذي كان ينشط في شكل خلايا بأطروحات إسلامية ذات نكهة ثورية، أشرك في التنظير لها عدداً من المثقفين ذوي التعمق في المسائل الدينية، وفي المضامين القرآنية، والأحاديث النبوية. وافترض أنه بهذه «الإسلاورية» يمكنه وضْع نهاية للتمدد الإخواني، يغنيه عن اعتماد التعامل الأمني مع الجماعات مطاردة وسَجناً وتهميشاً. ثم دارت الأيام على الحالة القذافية، وقُضي أمر نظامه إسقاطاً، وأمره نهاية مأساوية. وفي أعقاب ذلك خرجت الخلايا الإخوانية من قماقمها، ووضع كبراؤها وشيوخها الأيادي على مخازن السلاح والمخبوء من ثروات البلاد، ثم حولوا أنفسهم إلى ميليشيات، لكل واحدة أسلوبها؛ لكن كما الروافد، مآلها النهر الذي هو «الفاتيكان الإخواني» أو رأس الهرم لهذه الحالة الضاربة جذورها منذ الأربعينات في الدول الإسلامية. ثم فرضت التطورات، وأهمها سقوط حلم «إخوان مصر» في الإمساك بالحُكْم، والمفاجآت والمحاولات الانقلابية التي تصدعت، وأحدثها الانتفاضة التي أودت بالانقلاب الإخواني الذي حكم السودان ثلاثة عقود، أن ينتهي أمر «الإخوان» العرب إلى أنهم باتوا رعايا مرجعية تركية، تتمثل في شخص الرئيس رجب طيب إردوغان، المسكون بظاهرة المرشد خامنئي الذي أمسك بعقول الأطياف الشيعية في العالميْن العربي والإسلامي، وبنى على الولاء المذهبي لهذه الأطياف عقيدة مذهبية، مثل العقيدة الماركسية التي حُكم بها الاتحاد السوفياتي ثلاثة أرباع قرن، وبذل جهداً خارقاً في زرع هذه العقيدة في دول الجوار الأوروبي؛ لكن نموها كان تحت وطأة الإرعاب وليس الاقتناع، ثم تساقطت لمجرد سقوط التجربة السوفياتية.
كان إردوغان يحلم بوضع اليد على سائر دول الأمة، من خلال إبرام حلف إيماني متعصب مع مصر الإخوانية؛ لكن إسقاط حُكْم «الإخوان» عطل سعيه. ثم حاول مع السودان ولم يثمر السعي على النحو المأمول. وأقحم نفسه في المحنة السورية معتمداً على وجود إخواني ذي جذور ثابتة في سوريا، فزادها تخبطاً. وسعى إلى اقتناص دولة قطر مستفيداً من التأثير القرضاوي على قيادتها. وبعدما تمكَّن من ذلك بدأ عملية الانقضاض على الأوضاع المرتبكة والرخوة في الأمة، بادئاً بليبيا المتخاصرة مع مصر التي خذلت تطلعاته.
ما يجعل إردوغان مسكوناً باقتباس ظاهرة «المرشد السُّني» رديفاً لـ«المرشد الشيعي» أنه يترأس دولة مكتملة المقومات، لكي يقود بها مشروعاً إسلامياً طموحاً. فهي من حيث المساحة حوالى ثلاثة أرباع مليون كيلومتر مربع، ومن حيث السكان فإنها حالياً في حدود التسعين مليوناً، ويخطط إردوغان لجعلها تتجاوز مصر ومعها من حيث التعداد سائر الدول العربية بجناحيْها المشارقي والمغاربي. وهي بمقياس الغنى الطبيعي تملك ثروة من المياه والأرض الزراعية فضلاً عن الغاز، غير متوفرة لدول أُخرى؛ بل إن الأهم من ذلك أن ثروة المياه فيها فائضة عن الحاجة، وتكفيها مياه دجلة والفرات التي تتشابه في ذلك مع حالة مصر مع إثيوبيا في موضوع مياه نهر النيل. وهي بالنعمة المائية أمكنها إنشاء سدود كثيرة ومحطات توليد كهرباء أكثر، ثم هنالك ثروة الموقع الاستراتيجي الفريد؛ حيث هي بوابة آسيا إلى أوروبا، وخاصرة أوروبا إلى العالم العربي، وإحدى بوابات أوروبا إلى النائيات من الدول الإسلامية الآسيوية. وتبقى من هذه الهبات الرحمانية الثروة المعدنية، بدءاً بالحديد والفوسفات وصولاً إلى الذهب.
لكن رغم كل هذه النِّعم، نجد إردوغان لا يقنع، كما لا تكفيه ثروة العائد السياحي. وهذا في مجموعه يجعل من تركيا دولة قوية، ينعم شعبها بالرخاء، حتى إذا بات الثلاثة أرباع المليون حالياً ثلاثة ملايين. ولكن جنوح الزعامة جعله يقفز على هذه الحالة الفريدة، ويسعى بقوة العناد وأسلوب التحرش، من أجْل أن يكون أول إمبراطور إخواني، وبمواصفات وصلاحيات المرشد خامنئي الذي بسبب الجنوح المماثل ومحاولات التسلق النووي، يدفع بإيران نحو أن تكون التوأم الإسلامي لأخيه الكوري الشمالي.
رأى إردوغان المتلهف إلى دور إمبراطوري في المحنة الليبية، أنها خير شاة ينقضُّ عليها، كون البلد شبه متناثر، وهنالك خزان إخواني يحتاج إلى مَن ينجده بالمال والسلاح، لكي يحقق ما كان يرومه في الحقبة القذافية، ودفع ثمن محاولاته الثمن الباهظ. أما السلاح فإن مخازن الجيش التركي ملأى بكل أنواعه؛ لكن أين المال الفائض لدى إردوغان لكي يمول؟ ثم كان الحل من خلال حكومة ليبية، وفيها رئيس الحكومة المتمسك بالمتبقي في خزائن الدولة الليبية. وحيث إن بقاء الحكومة على ساحة الصراع مسألة حياة أو إفناء، إذن فليغرف الحليف التركي من تلك الخزائن ما يستحقه من الغرْف، جزاء انخراطه طرفاً في الصراع، وعلى استعداد لإفناء الطيف الآخر الذي يتصدى عسكرياً وقبائلياً للممسكين بالعاصمة طرابلس ورقة تشبه في فعاليتها إمساك الحوثيين بالعاصمة صنعاء.
على مفاعيل معادلة المال من ليبيا والسلاح من تركيا، بدأت صولات إردوغان، آملاً من حسْم الصراع لمصلحة الطيف الذي يعتبره بمثل اعتبار الحوثيين لإيران، المرشد و«الحرس الثوري»، أنه بعد الحسم سيقاسم الليبيين ثروتهم النفطية. ووصل التحدي من جانبه إلى مداه، وإلى درجة مخاطبة مقامات ليبية عسكرية ومدنية، بعبارات تتجاوز الأصول واللياقات بكثير؛ بل إنه في بعض الأحيان هدد بأنه سيؤدب هذا الطيف المعترض على تدخله العسكري والتعبوي والإعلامي، ومن دون تكليف أممي، في دولة لا تربطها بتركيا حدود.
هذا الذي يفعله إردوغان، والذي يشبه فِعْل الذئب المتربص مع شاة تائهة، ما كان ليحدث لو أن الاتحاد المغاربي استكمل نموه، ولم يعد - إذا جاز التشبيه - مولوداً منقوص التطور. ففي هذه الحال، أي افتراض أن حال الاتحاد المغاربي بات مثل مجلس التعاون الخليجي، لن يجرؤ معه إردوغان أو غيره على ممارسة دور يتجاوز التحرش إلى السعي للسيطرة غير المباشرة؛ لكنه عندما يرى دول الجناح المغاربي من الأمة على الأحوال التي هي عليها، بينما أربع دول (المغرب، وتونس، والجزائر، وموريتانيا) عالجت أمورها، واستقرت بنسب متفاوتة، بينما الدولة الخامسة ليبيا في حالة من التيه، فلماذا لا يجرب حظه انقضاضاً على هذه الشاة التي باتت الحلقة الأضعف داخل بني القوم المغاربي.
ليس مؤكداً أن الذي يفعله إردوغان في ليبيا سيثمر دعماً له داخل تركيا؛ خصوصاً أن التشققات داخل قلاعه الحزبية تتواصل.
في ظل الظروف الراهنة فإن الجميع في الاتحاد المغاربي في أشد الحاجة إلى مؤازرة البعض للبعض، وهذا يكون بإحياء هذا الاتحاد وإلا ستبقى الأبواب مشرعة أمام كُثر من ذوي النزعة الإردوغانية، وكل منهم يروم وصلاً بليبيا، هذه الشاة المستضعفة التي أنياب الذئب المتربص بها فاغرة لالتهامها. وحول هذه المعضلة بقية كلام.