عندما قرر الخديوى إسماعيل إنشاء أول برلمان مصرى على مستوى العالم العربى والشرق الأوسط وإفريقيا والذى تم افتتاحه فى 25 نوفمبر 1866، طلب أن يكون مشكلا من مجموعة مؤيدة لنظام الدولة وأخرى معارضة، وفى أولى جلساته، قال لهم رئيس البرلمان فى ذلك الوقت إن الخديوى يرغب فى أن يكون هناك حزبان أحدهما يؤيد الحكومة ويجلس على يمين المنصة التى يجلس عليها رئيس مجلس شورى النواب، والآخر يمثل المعارضة ويجلس على يسار المنصة طبقا للتقاليد البرلمانية، وقبل أن يدخل الخديوى ذهب إليهم رئيس البرلمان مرة أخرى ليلقى نظرة، فتفاجأ بجلوس جميع النواب على يمين المنصة التى تؤيد الحكومة، ومن ثم قام رئيس البرلمان بإقناع بعض النواب فى أن يجلسوا على يسار المنصة فى مقاعد المعارضة للدولة، ونجح فى إقناع بعض منهم بذلك.
فهذه اللقطة تلخص نظرة الحكام للمعارضة من قديم الأزل كديكور لتجميل المشهد الديمقراطى المزيف، يأمر بوجودهم ويخصص لهم المكان الذى يريده وتطور الأمر إلى أن أملى عليهم أيضا الكلام الذى يريد أن يسمعه منهم. ولكن هذه المعارضة الديكورية لا تبنى أوطانا ولا تصلح أوضاعا وإنما بالعكس تعمل على انهيار فكرة وجود معارضة حقيقية بناءة مفروض أن تكون جزءا لا يتجزأ من الدولة يساعدها فى قيامها وتقويمها وإصلاحها.
***
إن الدول الضعيفة هى تلك الدول التى ينفرد بها النظام الحاكم بقراراته ومواقفه السياسية بلا رقيب شعبى ومؤسسى ينتقد ما هو ضد الصالح العام وينبه الشعوب على خطر القرارات التى تؤخذ ضد مصلحتهم ومصلحة الوطن ويدعو ويضغط من أجل إصلاحها وتعديل مساراتها. وهذا ما يسمى بالمعارضة البناءة التى تعمل إما منفردة عندما تواجه جبروت السلطة الرافض للإصلاحات أو تعمل مع أصحاب القرار للتذكير والمشاركة برسم السياسات وخلق الآفاق الإصلاحية البناءة. وقيام معارضة بناءة تعمل سويا مع متخذى القرارات وأصحاب السلطة يتطلب مناخا ديمقراطيا صحيا يقوم على الشفافية والمصداقية والحوار الديمقراطى غير ذلك ستكون معارضة منفردة تواجه ظلم وجبروت وطغيان النظام الرافض لوجود معارضة من الأساس. ويلجأ لكل أدوات القمع لمحو وجودها بداية من التشويه والتشهير مرورا بالتخوين والحبس وغيره من مظاهر النظام الاستبدادى.
ومن جهة المعارضة فيجب أن تبرز مفاهيمها وتصوراتها ومواقفها وذلك من خلال كيانات ثابتة معلنة مثل الأحزاب والحركات لما لها من تأثير على إحداث التغييرات الايجابية بالمجتمع. إذن المعارضة موجودة بوجود المجتمعات منذ زمن طويل جدا وعندما تتحدث المعارضة عن النظام بأى بلد كان فإنك تتحدث عن جزء من الدولة جزء يعنى وجهة نظر فى السياسات المتبعة ــ لابد أن توضع فى الاعتبار– سواء سياسات اقتصادية واجتماعية وحتى سلوكية وسياسية بحتة سواء كانت فى الشأن الداخلى أو الشأن الخارجى.
ومن هنا لا يحق لأى كان أن يهمش دور المعارضة برسائلها الإيجابية فهى تسعى دوما لإنصاف المظلوم وتغيير السياسات الخاطئة، وهى موجهة دائما لخدمة الشارع أو المجتمعات فهى تضع المواطن صوب أعينها وتعتبره الجزء المقدس فى الدولة وتسعى للوصول إليه وأن يتبنى سياستها إذا شعر أنها تخدم مصالحه. وهنا نصل إلى مرحلة مهمة فى المجتمعات الديمقراطية التى تفتح المناخ العام وتسمح للمعارضة بالوصول إلى قواعد المجتمع سواء عن طريق إعلام محايد موضوعى لا يستثنى أحدا من الظهور أو عن طريق السماح بمؤتمرات جماعية واستخدام أدوات المعارضة السلمية التى ينص عليها القانون من إضراب أو تظاهر سلمى أو مقاطعة.
وعلى كل الأنظمة أن تعى أن وجود النوع الإيجابى من المعارضة يزيد بنية المجتمع قوة ومتانة، فالقائمون على سياسات المعارضة هم من أبناء الشعب، مواطنون يرفضون الظلم ويسعون دوما للعدالة ورفعة شأن المواطن والدولة على حد سواء. فالحكم الرشيد يجب أن يقوم على دعوة المعارضة للانخراط فى العمل العام والإعلان عن وجودها وتوضيح رسالتها لا أن يقوم على محاربة المعارضين ووأد المعارضة من جذورها بكل أدوات التنكيل، فوجود معارضة بناءة فى المجتمعات يؤثر على استقرار الأوطان ورفعة شأن البلد ويبعد عن جر البلاد لأى فتنة أو لا قدر الله نزاعات أهلية.
***
فالرسالة هنا «يجب أن تحتوى الدولة الجميع وتنتهج منهج الحوار المجتمعى وتجعل من الشفافية والمصداقية شعار عملها»
لكن أين ذلك فيما نعيشه اليوم؟؟
أين ذلك من إعلام دولة يحرض ليل نهار على الكراهية والتخوين والتشهير بالآخر وانتهاك الحياة الشخصية للمعارضين للتنكيل بهم!!
أين ذلك من خطف الشباب المعارض على وسائل التواصل الاجتماعى وعدم الإفصاح عن مكان احتجازهم إلا بعد فترة؟
أين ذلك من تجميد العمل المدنى فى مصر ووضع نشطاء المجتمع المدنى رهن الحبس الداخلى فى مصر وعدم القدرة على السفر والتنقل لسنوات عديدة دون محاكمة!!
أين ذلك من حبس واعتقال قيادات الأحزاب السياسية الشرعية المشهرة وتلفيق التهم لهم!!
فهل يعى النظام أن هذا المناخ هو مناخ مساعد وفعال للإرهاب وليس مناخا مكافحا له، فكيف يحارب الإرهاب بالبندقية فى سيناء وفى نفس ذات الوقت ينشئ بيئة مهيأة لخلق شباب سهل أن يجر لدائرة الإرهاب بإحساسه الدائم بالقهر والظلم والخوف والتنكيل.
نظام الحسبة السياسية التى تسمح لأى محامٍ رفع قضايا ضد أى معارض يُبدى رأيا مغايرا هو هدم لأبسط مبادئ الديمقراطية وتخويف المعارضة وقهرها.
المعارضة جزء من الدولة واستحقاق دستورى يبنى الدولة ولا يهدمها. لأنه لا يوجد «وهم» اسمه هدم الدولة، هذه الدولة التى صنعها أبناء الشعب بتضحياتهم وشهدائهم من جيش وشرطة ومدنيين.
إن وجود المعارضة هو إحياء السياسة التى كادت تموت فى مصر، فالتشدد والتعسف فى التعامل مع المعارضة يدفع إلى العنف والقسوة، ونحن نتمنى أن نخلق مجتمعا سلميا ملتزما بالقانون ومتصالحا مع نفسه لا مجتمع قلق يضع الناس فى حالة من الإحباط وتراجع المشاركة.
الكلمة حصن الحرية.
عن الشروق القاهريه