بقلم: حمد الماجد
خذوا هذه «الغريبة» التي انتشرت في السوشيال ميديا نستفتح بها الموضوع، فقد تناقلوا حواراً يُنسبُ إلى ميمون بن مهران، القاضي والعالم الجليل ومؤدب أبناء الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز، يقول لصاحبه وهو يحاوره: إني أتصدق وأجد مالي يزداد، فتصدق صاحبه، فقال: تصدقتُ فوجدتُ مالي ينقص، فقال ميمون: أنا أعامل ربي بيقين، وأنت تجرِّبه.
فللوهلة الأولى يبدو هذا الحوار الإيماني رائعاً، فهو يؤكد بالوقائع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في الحديث الصحيح «ما نقص مال من صدقة، بل تزيده»، كما يحث على الشعور بيقينية الوعد الرباني، لكن من يستخدم «منقاشاً دقيقاً» وهو يتأمل نص الحوار، سيخرج بعدد من الملاحظات والمثالب لم ينتبه لها عدد من الدعاة والخطباء والواعظين، وحتى الناقلين لها من المثقفين ومشاهير السوشيال ميديا، هذه الملاحظات تجعلنا نشك في أصل نسبتها لعالم ورع زاهد مثل ميمون بن مهران، إحداها أنَّ في الحوار ما يشي بتزكية النفس، وهذا غير مقبول ولا مستساغ من عامة الناس، فكيف بأحد خواصهم الأنقياء الأتقياء مثل ميمون بن مهران، وفيه أيضاً اتهام لنية الآخر وهذه أشد سوءاً، ثم ما الذي أدرى «مهران» أن الله لم يعط صاحبه بسبب نية التجريب؟ والذي عنده أدنى علم من الكتاب والسنة يعلم أن لله في زيادة المال أو نقصانه، في العطاء أو الحرمان، في الصحة والمرض، حكمة بالغة لا يدركها البشر، ومن ذلك عدم رؤية أثر الصدقة أحياناً، كحكمته، جلت قدرته، في عدم قبول الدعاء من متضرع باكٍ خاشع متذلل، ورد في الحديث الصحيح تداووا بالصدقة، فهل إذا شفى الله زيداً بسبب الصدقة، ولم يشف عمرو بسبب صدقته، أن الأول صادق والثاني في نيته خلل؟
نقول الله أعلم، فقد يكون ذلك صحيحاً وقد لا يكون، وإنما هو مزيد تمحيص وغفران للذنوب، فاللَّه وحده أعلى وأعلم وأحكم من مهران رحمه الله ومن كل البشر.
هذا غيض من فيض مرويات الغرائب والعجائب اكتنز بها تراثنا، منها ما يتعارض مع النصوص الشرعية الثابتة أو يناقضه العقل والمنطق، والباعث على إيرادها في القديم، هو شعور متأصل عند الواعظ أو القَصَّاص بأن هذه الطريقة هي الأسرع في انتشارها، وهي الأكثر إبهاراً في لفت الأنظار إليها من ذكر النصوص التي اعتادها وعرفها كثير من الناس، هذا حين كان الخطيب أو الواعظ يُحَدِّث عشرات أو مئات، وفي عصر السوشيال ميديا زاد لهيب التنافس في جذب الناس وإبهارهم بهذه الغرائب المنكرة والقصص المجهولة، فالواحد من المشاهير وفي نقرة واحدة يوصل هذه «الغرائب» إلى مئات الألوف بل الملايين.
والملاحظ أنه كلما زاد العالم أو طالب العلم رسوخاً، ندر أن تجد في أحاديثه ودروسه ومحاضراته مثل تلك الغرائب الممجوجة والقصص المجهولة، والعكس صحيح، فتجد بعض أفراد النوع الأخير «مَكَبَّاً» لكل نفايات هذه الغرائب، لا تجدها إلا عنده ينتشي بإيرادها ويبهج بتردادها، نعم قد تزيد من عدد متابعيه أو يكثر المتجمهرون في مواعظه، لكنه بالتأكيد ضرر بالغ أن تصل هذه الترهات لهذه الأعداد الكبيرة التي تتناقلها فيما بينها، وللحديث بقية.