بقلم : حمد الماجد
في بواكير بعثتي للتحضير للدراسات العليا بولاية كاليفورنيا الأميركية في أوائل الثمانينات، ألقيت في القاعة ورقة مقارنة في التخصص، وقد فاجأني أحد زملائي الأميركيين في القاعة بعد فراغي بأن طلب مني حديثاً هامساً قال فيه إنه لاحظ أنني وصفت من في القاعة بأنهم يدينون بالمسيحية. قلت: «وهذا صحيح؛ فأنا على الأقل وصفت أغلبيتكم؟». فعاجلني برده: «وحتى أغلبيتنا هنا ليست مسيحية؛ فأنا أعرفهم وأعرف معتقداتهم. هل تعلم أن أغلبية من في القاعة هم بين ملحد؛ ومَن يؤمن بقوة عظمى تتحكم في الكون ممكن أن تسميها (الله) أو (God)، وكلتا الفئتين لا تؤمن بالأديان ألبتة؟».
تذكرت هذا الحوار القديم المتجدد وأنا أقرأ تحقيقاً إحصائياً أجرته «FIFG» بتكليف من «جمعية صحافيي المعلومات الدينية» الفرنسية ونشرته مؤخراً جريدة «لوموند» الفرنسية، كان من نتائجه غير المسبوقة أن أغلبية الفرنسيين (51 في المائة) قالوا، ولأول مرة، إنهم ملحدون لا يؤمنون بالله.
وهذا يعني أن نسبة أكبر «لا دينيون»؛ يؤمنون بالله لكن لا يؤمنون بالأديان، ونسبة الملحدين الفرنسيين في تصاعد مطرد، كما يشير تحقيق صحيفة «لوموند»؛ فعدد الفرنسيين غير المؤمنين قد ارتفع إلى 51 في المائة، بعد أن كانت نسبة المؤمنين في عام 2011 تبلغ 56 في المائة، وفي عام 1947 كانت 66 في المائة.
ظاهرة الإلحاد أمست عالمية وتقضم من مساحة الإيمان بالله أو الإيمان بالأديان، وبوتيرة متسارعة، فشت في الدول الغربية، ثم تسللت خلسة إلى العالم الثالث؛ والعالم الإسلامي خصوصاً.
ولظاهرة الإلحاد سند وظهر ومؤسسات وميزانيات وإرساليات ومفكرون وبعثات تبشر به وتدعو إليه كحماسة المبشرين بالأديان.
وكما فاجأتني المعلومة التي ذكرها لي زميلي بجامعة «فرزنو كاليفورنيا» في مطلع الثمانينات، كانت المفاجأة أكبر في «العشرية الألفية» حين ألحت عليّ فتاة «خليجية» ملحدة أن أجري معها حواراً عن الإلحاد.
الفتاة تنتمي إلى أسرة محافظة وإقليم محافظ، وقالت بالحرف الصريح إنها لا تؤمن بالله ولا برسله ولا باليوم الآخر، ورددت فيه مقولات الملحدين نفسها القديمة المتجددة. كان الحوار هادئاً؛ فيه كل شيء إلا الرجوع للنصوص الشرعية.
واللافت أنها متحمسة لنشر فكرتها، وتتباهى بالعدد الذي اعتنق الإلحاد على يديها، وتنظر بعين الرحمة والشفقة إلى المؤمنين بالله، وتتمنى لو أنها انتشلتهم، كما تزعم، من ضلال الإيمان إلى نور الإلحاد!!
أفكار الإلحاد وشبهاته تبدو للبعض، وللوهلة الأولى، مربكة، لكنها في الحقيقة بالون أجوف من السهل أن «تنكشه» بإبرة صغيرة. قالت لي: من المؤسف أن يضيع الأكاديميون والمثقفون وذوو العقول الكبيرة أوقاتهم في الإيمان بما لا نراه ولا يسلّم به العقل.
قلت لـ«الفتاة الملحدة»؛ وهكذا تصف نفسها بكل فخر: أخبريني أين سيذهب هؤلاء الناس بعد الموت؟ قالت: يتحللون ويذوبون في التراب. قلت لها: حسناً؛ وهل تستوي خاتمة إنسان لا يقتل ولا يسرق ولا يؤذي بل وله خدمات كبيرة من العطاء والبذل والتضحية، بإنسان آخر يسرق ويقتل ويكذب ويضرب ويؤذي ويغتصب؟ فلم تجب.
هذا واحد من الدبابيس التي وخزت عدداً من بالوناتها. اللافت أنها حين تتحمس في كلامها تقول «الله»، وتشير في بعض الأحيان إلى السماء؛ حتى إنها ابتسمت خجلاً من الإيمان الذي يتغلغل في فطرتها رغماً عنها.