بقلم: حمد الماجد
هناك في الشرق والغرب وحتى من الأميركيين من يرى أن زلزال اقتحام مبنى الكونغرس الأميركي، قلعة الحرية وأيقونة الديمقراطية الأميركية، هو صدع من سلسلة صدوع تضرب بين الحين والآخر بنية الولايات المتحدة الأميركية، لتحيلها يوماً ما إلى الولايات المنقسمة الأميركية، وأن هذا التفكك مسألة وقت طال الزمن أو قصر، واعتبروا أن الاضطرابات العرقية للسود مثلاً، وكذلك الانقسام الشديد في المجتمع الأميركي، وحالة الاستقطاب الشديدة فيه وانتشار وتكاثر الميليشيات المتطرفة دينياً أو عرقياً (العلنية والسرية) في أنحاء أميركا والأوبئة مثل «كورونا» وحالة الظلم التي تشكو منها العرقيات، كلها صدوع ضربت أميركا، وأنها وإن خرجت منها سالمة في فترات سابقة، فما كل مرة تسلم الجرة الأميركية.
هل هذا «رأي رغبوي» (wishful thinking) يعتمل في نفوس بعض الذين يخاصمون أميركا ويتمنون أن تتحول ولاياتها إلى دول متنافرة متناحرة؟ ربما هذه حقيقة، ولكن الحقيقة الأخرى أيضاً تقول إنَّ عدداً من المفكرين والإعلاميين والباحثين المتجردين في الداخل الأميركي وخارجه ينافحون عن هذه التوقعات، ويقولون كما يقول ابن خلدون، إن الدول كبيرها وصغيرها، مثل الآدمي الذي خلقه الله من ضعف ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة، ثم جعل من بعد قوةٍ ضعفاً وشيبة، والولايات المتحدة ليست استثناء من الدول، فالإمبرطوريات والممالك والخلافة سادت ثم بادت، أو في أحسن الأحوال لم تمت بل انكمشت، والإمبرطورية البريطانية مثال صارخ معاصر للإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، وهي مساحة مكانية أشد اتساعاً من تلك التي فاخر بها الخليفة العباسي القوي هارون الرشيد، حين رمق سحابة كثيفة فخاطبها بمقولته الشهيرة: «أمطري حيث شئتِ فسيأتيني خراجك»... يقصد ضريبة زرعها، ومع ذلك تفككت الإمبراطورية البريطانية وضمرت وانكمشت في جزيرة أصغر من الهند - التي كانت واحدة من مستعمراتها - 13 مرة، بل إن بريطانيا العظمى بدأت تتصدع حتى داخل معقلها التاريخي في الجزيرة الصغيرة الهرمة التي تقوقعت فيها، فمقاطعة اسكوتلندا لها برلمانها المستقل وعملتها المختلفة وقوانينها المغايرة للقانون الإنجليزي، وعلى وشك الانفصال بالتراضي، وويلز أحيت لغتها المحلية الغريبة، وتفكر في اللحاق بالتي طلبت الانفصال، وأما آيرلندا الشمالية المنفصلة جغرافياً عن الجزيرة البريطانية فأشد وأنكى، حيث العرق المختلف والمذهب المسيحي الكاثوليكي المنافس للبروتستانتية في كانتربري الإنجليزية.
بل إن الأقرب زمنياً من تجربة الإمبراطورية البريطانية هو تفكك إمبراطورية الاتحاد السوفياتي بطريقة دراماتيكية مباغتة، لم تترك فرصة للمحللين العالميين رسم وتوقع سيناريو سقوط الشيوعية ثم تفكك إمبراطوريتها، وقد كانت، حين تفككت، تتربع مع الولايات المتحدة على عرش القوتين العظميين في كرتنا الأرضية، وللحديث بقية.