بقلم: حمد الماجد
في صباح لندني بارد، قرع جرس هاتف مكتبي في المركز الإسلامي بلندن. كان على الخط سفيرنا في لندن حينها الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، قال لي: «للتوّ جئت من الكويت بعد أن كرّموني هناك ومنحوني جائزة تقديرية ومبلغ ثلاثمائة ألف ريال، وأريد أن أتبرع به لصالح المكتبة التابعة للمركز، بس أرجوك يابومعتصم لا تخلّي المبلغ يضيع في متاهة نفقات المركز الإدارية، أريده للمكتبة والمكتبة فقط، ولك بعدها أن تتصرف في شراء الكتب التي تريد». شكرته ودعوت الله أن يتقبل منه. طلب مني حطاب العنزي، المدير السابق لمكتب وكالة الأنباء السعودية، أن أستأذن القصيبي في نشر الخبر، وكان لغازي مهابة عند موظفيه، فوافقت، وفي أحد لقاءاتي الخاصة بغازي نقلت له رغبة الوكالة في نشر الخبر، فحانت منه التفاتة سريعة إليّ كأنما فاجأه العرض، وقال لي: «حمد، يفرح الواحد منا أنه وُفّق لمثل هذه الصدقة، ثم تريدني أن أحرق ثوابها بوهج الإعلام؟ انسَ الموضوع». فنسيناه، لكنه راح عند مَن لا يضل ولا ينسى.
أغرب تعليق سمعته حول هذا الحوار أن أحدهم قال لي: واضح أن السفير يريدك أن تكون قناة لتلميع شخصه. قلت له: حسناً، هب أنني سقت هذا الخبر في مجلس أو مجلسين أو عشرة، وهب أن العدد الإجمالي للذين لمَّعت لهم صورته وصل للمائة أو المائتين أو حتى الخمسمائة، كيف تقارن هذا العدد بعشرات الملايين الذين كان سيصلهم خبر التبرع لو أنه أذن لوكالة الأنباء بنشره؟
يؤسفني أن هذا هو نمط التقييم السائد في عالمنا العربي الذي تقول قاعدته: إما أن تكون قديساً وإما أن تكون إبليساً، ولا يوجد في الألوان إلا الأبيض والأسود، ولا ننظر في الأكواب إلا إلى الجزء الفارغ.
لقد تصور البعض أن النزالات التي خاضها القصيبي مع عدد من الدعاة في التسعينات كانت معارك مع الإسلام ذاته، وأن الخصومة مع بعض الإسلاميين كانت خصومة مع الإسلام. وهذا في تقديري خطأ جسيم ساق «بعضاً قليلاً» إلى انفصام نَكِد في تقييم شخصية وأعمال واجتهادات غازي وغير غازي. فلأنه وقر في العقل الباطن عند البعض أن خصومته كانت مع الإسلام، فلم يستوعب ولم يفهم الأعمال الإسلامية التي عملها الرجل، مثل: وطنيته الصادقة في خدمة المواطن التي هي في الميزان الرباني أعظم من بعض العبادات التي لا ينتفع إلا صاحبها، والمشاعر الإسلامية المتدفقة في بعض أعماله الأدبية، واهتمامه الكبير بالثقافة الإسلامية ومدارسته المتكررة لعدد من طلبة العلم حول عدد من المسائل الشرعية، ومبادرته في إقامة شعيرة صلاة الجمعة في سفارة السعودية في لندن ومواظبته على هذه الصلوات، وغير ذلك كثير، حتى أدى هذا الانفصام النَّكِد والحدّية في التقييم إلى الحكم على هذه الأعمال وعلى صاحبها بأحكام قاسية ندم عليها مَن أطلقها بعد أن نضج وراجع مواقفه.
هناك فرق شديد بين أن تقول إن لفلان خصومة مع الإسلام وأن تقول إن للقصيبي أعمالاً وأفكاراً واجتهادات ورؤى وروايات وقرارات بعضها صواب وبعضها اجتهادات خاطئة. ولو أننا سلكنا المسلك المنصف في تهذيب وتقييم الأعمال والرجال، لكنا وفّرنا على ديننا وعلى أوطاننا وجهودنا وتنميتنا خصومات عدمية ضررها أكبر من نفعها.
هذه سوانح سبق أن كتبتها عن غازي، رحمه الله، أعيدها بعد أن أحيا الناس ذكرى مرور 9 أعوام على رحيله، والحقيقة، كما يقول الصديق د. زياد الدريس في تغريدته «إن القصيبي رحل ولم يرحل».