بقلم: مصطفى الفقى
تواكب هذه الأيام الاحتفال بالعيد المئوى لميلاد شخصية مصرية فريدة أحببتها عن بعد ثم عرفتها عن قرب، وهو السيد خالد محيى الدين، رحمه الله، الذى كان نموذجًا متميزًا بين ثوار يوليو من الضباط الأحرار، فهو ابن عائلة ميسورة من كفرشكر التى تتبع محافظة القليوبية حاليًا والمعروفة بمزارع الفاكهة والتى تنتمى إليها تلك العائلة العريقة ذات الأصول الدينية التى كانت دائمًا محل التقدير والاحترام فى تلك المنطقة من ريف الدلتا، فهى العائلة التى قدمت زكريا وخالد وفؤاد وعمرو وصولا إلى آخر العنقود الاقتصادى الدولى الشهير محمود محيى الدين، وعندما قامت ثورة يوليو 1952 ضم مجلس قيادة الثورة ثنائياتٍ عائلية مثل صلاح وجمال سالم، وكذلك زكريا وخالد محيى الدين.
لكن خالد محيى الدين غرّد من البداية خارج السرب واختار طريق الاشتراكية الديمقراطية التى كان يبدو العزف على وترها فى ذلك الوقت أمرًا غير مستحب! رغم أننى أظن أن عبدالناصر كان يحمل له ودًا شخصيًا قديمًا، حتى إنه سمى ابنه الأكبر خالد اعتزازًا بصداقة من يحمل الاسم من رفاقه الثوار، وأتذكر الآن أن أول دعوة وجهت لى عندما جرى تعيينى كأول سكرتير للمعلومات فى عهد الرئيس مبارك كانت على عشاء فى منزل السيد خالد محيى الدين الذى كانت تربطنى به علاقة عابرة فيها إعجاب شديد من جانبى بشخصيته النظيفة واسمه المحترم، وفى تلك الليلة كان الحديث متصلا بين مجموعة من المثقفين، يتصدرهم أسامة الباز ولطفى الخولى ورفعت السعيد، وكنت أنا القادم الجديد لتلك البوتقة من أفضل أبناء الوطن.
وفى اليوم التالى سألنى الرئيس مبارك مباشرةً هل استمتعت بعشاء الأمس؟ فأدركت أنه كان على علمٍ به وذكرت له طرفًا من الأحاديث التى دارت فأثنى على السيد خالد محيى الدين بشكل خاص، وقال بالحرف الواحد: «إن رفاقه تخلوا عنه رغم أنه وطنى نقى تقى»، لقد عرفت شخصيًا فى السيد خالد محيى الدين ذلك الرجل القابض على مبادئه لا يتغيّر ولا يتلون فى كل الظروف، إلى جانب توازن يقترب من مفهوم اليسار الإسلامى إذا جاز التعبير، فالرجل متدين بطبيعته وظروف نشأته وتقاليد عائلته، وهو أيضًا ثائر حر بما قرأ وسمع وفهم وعلم، وهنا أقول إن الضباط فى ذلك الوقت- بعد نهاية الحرب العالمية الثانية- كانوا يحوزون قدرًا كبيرًا من الثقافة السياسية جعلتهم دائمًا فى طليعة الشعب الذى ينتمون إليه والمجتمع الذى خرجوا منه، وأعتز الآن كثيرًا بذكرى مئويته فقد ولد عام 1922 الذى يعتبر عام الحصاد للنتائج الإيجابية لثورة 1919 العظيمة.
وعندما جرى تعيينى فى مجلس الشعب عام 2000 وأصبحت رئيسًا للجنة العلاقات الخارجية فيه عام 2001 كان السيد خالد محيى الدين عضوًا فى هذه اللجنة حريصًا على حضور كل جلساتها ببساطة وتواضع جعلتنى مبهورًا بشخصيته وثقافته وآرائه المتوازنة، وعندما تقرر أن نزور البرلمان الأوروبى قال لى الدكتور فتحى سرور، رئيس المجلس حينذاك، إن السيد خالد محيى الدين لا يتحمس لعضوية وفد برلمانى إلا إذا كان رئيس الوفد هو رئيس المجلس أو وكيله على الأقل، وعندما فاتحه د. سرور فى أمر الوفد الذى سوف أرؤسه فى مهمة برلمانية مهمة قال السيد خالد محيى الدين بلا تردد ليست لدى حساسية فى أن يكون رئيس الوفد هو الدكتور الفقى تحديدًا فهو ابن لى أعتز به منذ سنوات.
وقد كانت زيارة رائعة احتفى فيها البرلمانيون الأوروبيون بالحاصل على جائزة لينين للسلام أرفع أوسمة الاتحاد السوفيتى السابق، فضلاً عن تاريخه المجيد فى الثورة الوطنية المصرية وما بعدها، وأتذكر إصرارى على حمل حقيبة يده الصغيرة أثناء جولاتنا فى تلك الرحلة احترامًا وتقديرًا له، وكان وكيل اللجنة صديقى الأستاذ منصور عامر يصمم على الإشراف على إفطار الصباح المشترك بنا ويخص السيد خالد محيى الدين بكل الاهتمام والتوقير، إن الرجل العظيم الذى يمثل شخصية الثائر الذى لا يتغير ولا يتلون هو نموذج متفرد فى تاريخنا.
وحسنًا فعل رئيس الجمهورية الانتقالى المستشار عدلى منصور عندما منحه قلادة النيل بعد أكثر من نصف قرن من حصول رفاقه عليها بعد أن حرمه منها عبدالناصر والسادات ومبارك كل لأسبابه، لكن ضمير مصر اليقظ أبى إلا أن تتهادى القلادة لذلك القطب الثائر ولو فى آخر سنوات عمره.. تحية له وتقديرًا كبيرًا لاسمه العظيم واعترافًا بفضله ابنًا بارًا من القوات المسلحة المصرية وشعب مصر العريق.