بقلم : مصطفى الفقي
رحل عن عالمنا مصرى عظيم وقاض رفيع الشأن وكتلة من الكبرياء والكرامة هو المستشار فتحى خليفة، رئيس محكمة النقض الأسبق بعد سنوات من العزلة الصحية والانفصال عن العالم، ولكنى كنت أتذكره دائمًا ولا أنساه أبدًا، وقد اتصل بى الصديق الأستاذ أحمد أبوشادى الإعلامى الدولى الذى عمل فى سفارة مصر بواشنطن وفى صندوق النقد الدولى ليذكرنى بما كتبته عن القاضى الفاضل الراحل فتحى خليفة وكان ذلك فى 10 إبريل عام 2013 عندما كتبت عنه بلا مناسبة لأننى التقيته فى إحدى الحفلات ولم يتعرف على رغم العلاقة الوثيقة التى جمعتنى به لسنوات، ولقد كانت بدايات المرض قد زحفت على مراكز الذاكرة وأصبح لا يعرف من أحبوه وأحبهم، وها أنا أستأذن المصرى اليوم والقارئ معًا فى إعادة نشر ذلك المقال بعد أكثر من سبع سنوات ونصف من نشره تحية لرمز شامخ فى القضاء المصرى بمناسبة رحيله:
لقد تبوأ أرفع منصب قضائى فى البلاد فكان رئيسًا «لمحكمة النقض»، ومع ذلك لم يأخذ حقه من التقدير الذى يناسبه والتكريم الذى يستحقه، فلقد كان رجلاً شديد المراس صلبًا فى مواقفه متمسكًا بحرفية المبادئ التى يعمل عليها رجل القضاء، وقد يختلف معه الكثيرون إلا أننى شاهد حقٍ وعدل مثل غيرى على أن الرجل لم يكن بوقًا لنظام الحكم ولا أداةً له، وإنما كان يتصرف من وحى ضميره وما يؤمن به، إن المستشار «فتحى خليفة» لم يكن رجل سياسة وإعلام بل جاء إلى موقعه بالأقدمية المطلقة وكان حريصًا على الترفع عن الصغائر أو الهبوط بمستوى القضاء المصرى من عليائه، ولقد رأيته ذات مرة فى حفلٍ عام دعا إليه السفير السعودى الأسبق «د. هشام ناظر» وكان المستشار «فتحى خليفة» يبدو لى مترفعًا رفعة القضاء، هادئًا هدوء العلماء، صامتًا فى عزة وكبرياء، وتحدثت معه يومها فى كلمات قليلة أدركت معها مكانة الرجل وقيمته وعزوفه عن المناصب وابتعاده عن بريق السلطة ثم رأيته بعد ذلك بعدة سنوات فى سرادق عزاء فكان شاردًا مهمومًا لا يكاد يعرف أحدًا حوله، ولقد حرمه النظام الأسبق من أى منصب تكميلى بعد التقاعد أسوة بزملائه ربما لأنه لم يكن على وفاق كامل مع التوجهات السائدة حينذاك فضلاً عن أنه لم يكن من رجال النظام فى السلطة القضائية، لذلك دفع المستشار «فتحى خليفة» الثمن مرتين!
مرة مع النظام القائم ومرة أخرى فى مواجهة منتقديه داخل السلطة القضائية ذاتها، ولكن الرجل كان خلوقًا بطبعه، عزوفًا عن دخول المعارك بفطرته، ولقد أراحنى كثيرًا أن رجلاً من هذا الطراز كان على رأس السلطة القضائية عندما كانت «محكمة النقض» تفحص الطعون فى انتخابات عام 2005 وكنت طرفًا فى إحداها، فأنصفتنى المحكمة فى عهده وإن كانت التقارير قد صدرت بعد إحالته للتقاعد، إننا أمام نموذج شامخ لرجل قضاءٍ لم يلهث وراء المناصب ولم يغازل السلطة ولم ينجرف وراء الإعلام ولكنه انزوى بعد لحظة الانصراف فى هدوء الزاهدين وصمت الشرفاء، وقد يتساءل البعض لماذا اختار أحيانًا شخصيات تبدو بعيدة عن الضوء، والإجابة على ذلك موجودة فى السؤال ذاته، فأنا أريد أن أقدِّم للأجيال الجديدة نماذج مشرقة من كافة المجالات، وأقول لهم إنه لا يصح إلا الصحيح دائمًا وأن الشرف أنقى وأبقى، وقديمًا قالوا إنك تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت أو تخدع بعض الناس كل الوقت، ولكنك لن تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت! والمخلوق البشرى لم يعش الدهر كله ولم يعش فى كل مكان لذلك كان طبيعيًا أن يستلهم خطى سابقيه وأن تكون القدوة هى نبراس الأجيال الجديدة وهى فى طريقها الطويل مهما كانت المصاعب والتحديات.. إن المستشار «فتحى خليفة» نموذجٌ رفيع للقاضى الملتزم الذى لم تلوثه السياسة ولم تنل منه آثامها ولم يحمل شيئًا من خطاياها