بقلم : مصطفى الفقي
من الحقائق المعترف بها أن الانصهار الحقيقى لكل أمة يأتى من مصدرين أساسيين، أولهما هو الجندية الإجبارية - أى خدمة العلم - على كل من يحمل جنسية الدولة، أما الثانى فهو حق التعليم العام والمفترض أن يكون مكفولًا لكل مواطن فى مساواة كاملة يستعد بها لخدمة وطنه، إن حق التعليم يؤكد الانتماء ويسعى إلى الاندماج الكامل بين أفراد الوطن خصوصًا فى مستهل حياتهم بحيث يشعر الجميع بأن مفهوم المواطنة يجد تطبيقه عمليًا بصورة غير منقوصة، وهنا نلاحظ أن أمر الجندية محسوم فكل من ينتمى لهذا الوطن يجب أن يدفع ضريبة الدم التى نسميها خدمة العلم لفترات محددة يشعر فيها الشاب بالانتماء الشديد لوطنه والاستعداد للتضحية من أجله، وذلك أمر لا خلاف حوله ولا جدال فيه ولكن المظهر الثانى من مظاهر الوحدة الوطنية الكاملة لا يجد تطبيقه الصحيح فى نظامنا التعليمى، إذ إن لدينا أنماطا متباينة من نظم التعليم فى البلاد بدءًا من التعليم الحكومى وصولًا إلى التعليم الخاص مرورًا بالتعليم الأجنبى مع الوضع فى الاعتبار أن معظم المدارس قد أصبحت مؤسسات استثمارية تعود ملكيتها لأفراد أو لعائلات محددة يمارسون عليها حق الإدارة وتشكيل صورة المستقبل من خلال المؤسسة التعليمية التى ينتمون إليها، وهم بذلك يلعبون دورًا خطيرًا بتكريس التمييز بين الأفراد والعبث بمفهوم المساواة التى يجب أن يشعر بها كل مواطن تجاه غيره من أبناء الوطن الواحد، فهم يسهمون- إيجابًا وسلبًا- فى تشكيل العقل الجمعى للأمة المصرية وهو أمر جد خطير لو تعلمون! فمنه تنطلق العبقريات والأفكار الرائدة والرؤى السليمة، ومنه أيضًا تنطلق الأفكار الهدامة والانحرافات المزمنة والنظرة الضيقة، وإذا كنا اليوم نحيى العسكرية المصرية متمثلة فى أبنائها البواسل الذين خرجوا من صفوف الشعب تلبية لنداء الشرف والواجب والتضحية بأعمارهم فى سن الشباب دفاعًا عن تراب مصر وحدودها المستقرة عبر آلاف السنين فإننا نؤكد أن الجندية بحق هى معمل انصهار كبير لسبيكة وطنية نعتز بها ونزهو بوجودها تأكيدًا للتجانس الشديد والانصهار القوى بين كافة الفئات والديانات والطوائف دون النظر للمستوى الاجتماعى أو الأصول العرقية، فالعبرة تكون بالانتماء لمصر والولاء للوطن، ويهمنى هنا أن أسجل ملاحظتين هامتين:
الأولى: إننى- شخصيًا- من المعجبين بوزير التعليم الحالى وسر إعجابى به هو جسارته فى اقتحام مجالات لم تكن مطروقة والإفصاح عن المسكوت عنه فى العملية التعليمية وإصراره على تحديث المنظومة كاملة على كافة المستويات، وقد جاء وباء الكورونا ليعزز من وجهة نظر الوزير فى إقرار نظم التعليم عن بعد وكأنما يبدو ذلك أنه تأكيد لمأثورة قديمة «رب ضارة نافعة»، فجاء التيار الكاسح فى العالم داعمًا لظاهرة «العمل والتعليم عن بعد» بما عزز سياسات الوزير ودعم توجهاته المدعومة من رئيس البلاد ولكن بقيت مسألة توحيد النظم التعليمية فى مصر وهى مسألة معقدة وشائكة تتداخل فيها عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية فضلًا عن الفوارق الطبقية أيضًا وهى ترتبط كلها بمبدأ المساواة وشعار المواطنة لذلك يتعين أن تكون الفرص متكافئة فى التعليم العام ونوعياته والأسس الأخلاقية والتربوية التى يستند إليها تحت مظلة الوطن الواحد.
ثانيًا: إن التعليم العالى فى مصر قد قفز خطوات إلى الأمام فى السنوات الأخيرة لأن وزير التعليم العالى يؤمن بمفهوم توسيع دائرة الإتاحة فى الدراسات الجامعية واستدعاء أرقى مستويات التعليم الأجنبى إلى الأرض المصرية رفعًا لكفاءة الجامعات لدينا وتعزيزًا لمفهوم الانصهار بين الطبقات حتى ترصعت سماء مصر بعدد من الجامعات الأجنبية والأهلية إلى جانب الجامعات المصرية العريقة التى هى بالضرورة قاطرة التعليم المصرى كله.
بقيت همسة فى أذن الوزيرين بحكم منصبيهما الخطيرين فى تحديد الهوية الوطنية والتركيبة الجديدة للعقل المصرى وتلك الهمسة هى ضرورة وضع حد مقبول لمصروفات الجامعات بكل أنواعها، وذلك رعاية لطبقات هى أكثر عددًا وأقل دخلًا، وإذا كنا لا نستطيع تطبيق شعار عميد الأدب العربى د. طه حسين «التعليم كالماء والهواء»، فدعنا نضيف للعبارة كلمة (بأقل تكلفة)، ما دمنا لا نستطيع تحقيق المجانية الكاملة.. أيها السادة إن خطورة المستقبل المصرى تكمن فى منظومة التعليم، فهو بوابة العصر إلى غد أفضل بغير جدال!