بقلم : سامح فوزي
عشت فى بريطانيا أثناء دراستى العليا، وزرت مدنا أوروبية عديدة عشرات المرات؛ الانطباع الذى بدأ يستقر لدىّ أن هناك موجة من التدين تنتعش فى أوروبا.
السؤال لماذا؟
التقيت منذ أيام فى رحاب جامعة ليفربول العريقة بعدد من الباحثين المتميزين فى الشأن الدينى. كانت الاجابة عن السؤال متعددة الابعاد. هناك من قال إن ذلك يعود إلى الاتجاه المسيحى المحافظ الذى تبلور ردا على المد الاسلامى فى أوروبا. إزاء من ينادى بهوية إسلامية، ويرفض الاندماج الثقافى فى المجتمع الاوروبى عاد من يقول بأن أوروبا مسيحية. يتجه هذا الرأى إلى التأكيد على نظرية رد الفعل فى رصد ظاهرة التدين العائد إلى أوروبا. آخرون رأوا أن ذلك انعكاس مباشر للتدين المحافظ الأمريكى إذ إن بريطانيا ترتبط فى العقود الثلاثة الاخيرة بعلاقات عبر الاطلنطى بالولايات المتحدة شديدة الكثافة؛ ومن الطبيعى أن يكون هناك تأثير وتأثر. إذ تظل بريطانيا مصنع السياسة بالنسبة للامريكيين؛ لكنها تتأثر بشدة فى الوقت نفسه بالثقافة الواردة إليها عبر الاطلنطى.. الجذور الانجلو ساكسون لها تأثيرها بالضرورة.
مع احترامى لكلا الرأيين؛ وفيهما وجاهة بالتأكيد، سوف يظل العامل الحاسم فى رأيى هو الفقر الروحى الذى تسببت فيه الحداثة الأوروبية؛ حيث باتت قطاعات عريضة فى المجتمع تحت ضغط ثقافة المجتمع الاستهلاكى؛ والتفكك الاجتماعى تبحث عن معنى فى الحياة؛ ووجدوا ضالتهم فى التدين. هذه ظاهرة تتجاوز بريطانيا، فقد رأيتها فى ألمانيا وسويسرا وإيطاليا واليونان والدول الاسكندنافية وهى جميعها مجتمعات يتباين فيها دور الدين ومظاهر التدين فضلا عن التقدم الاقتصادى والاجتماعى. واللافت أن هناك عددا من الباحثين فى علم الاجتماع أشاروا فى السنوات الماضية إلى بعض مظاهر انخفاض رأس المال الاجتماعى أى تراجع التضامن بين المواطنين، والالتقاء والتعاون فيما بينهم وتفضيلهم الانكفاء على ذواتهم منها تحليلات روبرت بوتنام الشهيرة...
أيا كانت الاسباب فإن هناك شواهد تفيد بأن التدين بات يعرف طريقه لبعض الاوساط الأوروبية على نحو يدهش من كانوا يعرفون هذه المجتمعات منذ ثلاثين سنة.. صحيح أن هذه المشاهدات لم ترق لوصف الظاهرة لكنها تظل بحاجة إلى تتبع ودراسة. المجتمعات تتحول فى علاقاتها بالدين؛ أظن أن المجتمع المصرى يعيد أيضا على نحو هادئ تقييم أنماط التدين فيه خاصة التى لا تستند إلى أساس حقيقى، وهناك حس نقدى ليس فى مواجهة الدين ذاته بل بالاكثر فى مواجهة التدين وصوره وأشكاله. ولكن ينبغى أن ندرك بأن كل ذلك رهن بتوافر مناخ حرية الرأى والاجتهاد والجرأة فى تناول قضايا الدين والمجتمع.
نقلًا عن الشروق القاهرية