كثيرون لا يعرفون. وغيرهم لا يصدقون أن ثورة يوليو فى عدة سنوات أعادت بناء هذا البلد الذى كان وصفه بالدولة قبلها غير دقيق.. كنا بلداً بغير جهاز للمخابرات العامة، وبلا جهاز مركزى للمحاسبات، بل ومن دون جهاز مركزى للتعبئة والإحصاء، ولا حتى جهاز للموظفين العموميين اسمه «المركزى للتنظيم والإدارة»!!!
لم يكن فى مصر جهاز يتتبع الفساد فى أروقة الإدارة الحكومية ويطارده، نعرفه الآن بهيئة الرقابة الإدارية، ولم يكن فيها مركز قومى للبحوث يضم خيرة عقول مصر فى جميع المجالات، ولا هيئة للبحث العلمى تتابع وترصد وتسجل..!!
لم يكن فى مصر بنية طبية أساسية؛ فلا مستشفيات للحميات والأمراض المتوطنة، ومنها أمراض الصدر، فأسست ثمانين منها فى ربوع مصر لعبت دوراً مهماً العامين الماضيين فى التصدى لوباء كورونا.. ولم يكن فى بلادنا معهد لأمراض القلب، فكان معهد القلب القومى بإمبابة.. ولم يكن فيها معهد لعلاج الأورام، فكان المعهد الحالى التابع لجامعة القاهرة.. ولم يكن فيها معهد للسكر -لا نعرف ماذا كان فيها وكل أمراض شعبنا لا شىء لها- بل لم يكن فيها لأكثر أمراض مصر خطورة واستيطاناً فكان معهد «تيودور بلهارس» لأمراض وأبحاث البلهارسيا!!
لم يكن فى مصر هيئة للإسعاف -كانت جمعيات أهلية- ولم يكن فيها إدارة للقومسيون الطبى.. ولم يكن فيها قانون للتأمين الصحى.. ولا مستشفيات تتبعه.. ولم يكن فى قرى مصر وحدات صحية، وأسست أغلبها فى عهد وزير الصحة الأسطورى الدكتور النبوى المهندس.. الذى بكاه الزعيم جمال عبدالناصر وهو ينعاه فى أول اجتماع لمجلس الوزراء بدونه.. لأنه أكثر من يعرف قيمته!
لم يكن فى مصر مسرح للبالون.. ولا هيئة للسيرك.. ولا فرق للفنون الشعبية على أسس حديثة.. ولا حتى فرق متنوعة للمسرح مثل الطليعة والكوميدى وغيرهما.. بل لم يكن هناك معهد علمى للفنون، فكانت أكاديمية الفنون بكل دراساتها عن السينما والتليفزيون والإخراج والتمثيل والديكور والنقد!!! لم يكن فى بلادنا الصوت والضوء عند الأهرامات وأبوالهول ولا فى أسوان والأقصر.. ولم تكن لدينا هيئة عامة للكتاب. ولا معرض سنوى له.. ولا هيئة لقصور الثقافة. ولا قصور ثقافة أصلاً، ولا أخرى للترجمة والنشر، ولا ثالثة للوثائق القومية!!
لم يكن فى بلادنا كورنيش لنيل القاهرة يمتد من شبرا الخيمة إلى حلوان، ولا برج يرى الناس عاصمتهم من فوقه، ولا مؤسسة للتليفزيون تحمل النور إلى كل مكان.. ولا كانت القصور الملكية مفتوحة للجمهور، ولا كان شاطئ المعمورة -شاطئ الطبقة الوسطى المصرية- ولا جمصة ولا غيرها!!
لم تكن قناة السويس بيد أصحابها، ولا السد العالى قد بنى، ولا الرقعة الزراعية قد زادت بنسبة ١٥٪ لأول مرة فى تاريخ البلاد.
لم تكن هناك محافظة للوادى الجديد، ولا مديرية للتحرير بالبحيرة، ولا محطات للتسمين، ولا تحول مليون فدان للرى الدائم، ولا جمعيات قروية زراعية ولا إضاءة للريف!
فى مايو ١٩٦٩ بدأ العمل فى كوبرى أكتوبر، وعند إنجاز مرحلته الرابعة كانت حرب ٧٣، فتغير اسمه من رمسيس إلى الاسم الحالى، وفى سبتمبر ١٩٧٠ وقّع المهندس على زين العابدين مع بيت الخبرة الفرنسى عقد مترو الأنفاق، وبعدها بثمانية أيام رحل عبدالناصر وتأجل المشروع عشر سنوات!
لم يكن فى القاهرة مدينة نصر ولا الألف مسكن ولا مساكن ناصر بإمبابة ولا مساكن الوحدة والقومية العربية فى شبرا وإمبابة أيضاً!
وزير التعليم الأسبق جمال العربى، فى حواره لـ«صدى البلد» فى ٢٣ يوليو الماضى ٢٠١٨، قال إنه لم يكن فى مصر حتى ١٩٥٣ إلا ٣٧٢ مدرسة، ولكن وضعت الخطط سنة ١٩٥٥ لإنشاء ٤٠٠٠ مدرسة وإعداد ٤٠٠٠٠ معلم ومعلمة فى ثمانية أعوام أنجزت عام ١٩٦٣!!
لم يكن فى صعيد مصر أى جامعة ولا فى الدلتا ولا فى القناة.. ولم يكن فى مصر معهد للسمع والكلام.. ثم كان، ولا معهد آخر للبحوث الاجتماعية وغيره لبحوث البناء، وثالث للبحوث الزراعية، ورابع للدراسات العربية، وخامس للدراسات الأفريقية، ولا مراكز طبية شديدة التخصص كمركز السموم، ولا معهد طبى متكامل أطلق عليه عقب رحيل ناصر «معهد ومستشفى مركز ناصر» على كورنيش القاهرة، ولا أكاديمية عسكرية أبرز وأهم معهد علمى عسكرى عربى وأفريقى وشرق أوسطى هى «أكاديمية ناصر للعلوم العسكرية»!!
لم يكن الأزهر قد تطور وكانت علومه شرعية دون علوم عصرية حديثة، فكانت كليات الطب والهندسة وغيرهما ثم توالت الكليات.. ولم يكن هناك مجمع للبحوث الإسلامية، ولا المؤتمر الإسلامى، ولا مدينة البعوث الإسلامية التى أضافت إلى قوة مصر الناعمة قدر المتيسر منها عشرات المرات.. إذ يندر أن نجد وزيراً أو حتى رئيساً أو مسئولين كباراً فى العالم الإسلامى إلا وقد عاش أزهرياً فيها! لم تكن هناك الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، ولا المحكمة الدستورية العليا، ولا معهد التخطيط القومى، ولا أرض المعارض، ولا هيئة الاعتماد والجودة!!
كل ذلك وهناك الأهم.. أن انتهى الاحتلال الأجنبى. وصارت مصر قائدة لأمتها العربية وقارتها الأفريقية. والأهم الأهم أن حصل المصرى على نصيبه من ثروة وطنه.. ليس فى أرض زراعية فحسب.. وإنما حقه فى التعليم والعلاج والصحة والسكن والعمل، مع حقه فى الصعود الاجتماعى بدخول الكلية التى يريدها أو البعثة التى يستحقها دون تمييز إلا بالتفوق والسمعة الحسنة فى أروع صور المساواة وتكافؤ الفرص!!
الآن.. هل تعلم أننا تركنا تفاصيل عديدة ومهمة ومدهشة بحكم مساحة المقال؟! هل تعلم أننا لم نفتح أحد أبرز ملفات الثورة وعبدالناصر وهو الصناعة لأنها تحتاج مقالاً مستقلاً عند الحديث العابر عنها وبغير تفصيل؟
كل عام ومصر كلها بألف خير.. وعاشت بلادنا حرة كريمة.. بثورتيها.. «الجيش والشعب».. و«الشعب والجيش»!