بقلم : ماهر حسن
هناك كتاب جميل يفيض بالحكى والسرد باللغة العامية صادر عن دار نهضة، وهو للفنانة والإعلامية إسعاد يونس، بعنوان «زى ما بقولك كده - الجزء الثانى».. جاء فيه أن مفيدة هى أول محامية مصرية، وأختها توحيدة عبدالرحمن أول طبيبة فى الحكومة المصرية، وثانى طبيبة مصرية بعد الدكتورة هيلانا سيداروس، ونتفق مع ما جاء فى هذا الكتاب، لكن ما يتعين التحقق منه هو أن نؤكد من هى المحامية الرائدة الأسبق.. هل هى نعيمة الأيوبى أم مفيدة عبدالرحمن؟!.
وهناك كتاب آخر بعنوان «الدكتورة» للكاتب مؤمن المحمدى، وتكشف فصوله عن جانب كبير من التجميع والتوثيق الذى قام به الابن محمد محمود عبداللطيف لتسجيل سيرة والدته الدكتورة توحيدة عبدالرحمن، من خلال ما عاشه معها من ذكريات: عن الدكتورة توحيدة عبد الرحمن أول طبيبة يتم توظيفها فى الحكومة المصرية، وفيه أنها ولدت عام 1906، وفى عام 1922 سافرت للدراسة فى بريطانيا وعمرها 16 عاماً، ضمن بعثة تعليمية تضم 6 فتيات، وعادت فى عام 1932، وأصرت على الاهتمام بالفقراء والعمل فى المستشفيات الحكومية، وبالفعل تم تعيينها بعد عودتها بأيام فى مستشفى كتشنر الخيرى (المستشفى العام بشبرا)، وبذلك تعد أول مصرية تلتحق بالجهاز الحكومى، ثم استقالت عام 1952 لكى تتفرغ لأسرتها وأبنائها.. ورحلت عن دنيانا فى 10 سبتمبر 1974.
وكان المؤرخ الفنى والكاتب الصحفى والمسرحى أيمن الحكيم قد كتب موضوعا شاملا وغنيا بالتفاصيل الدرامية عن سيرة ومسيرة توحيدة عبدالرحمن، قال تعبيرا كان فى محله، وهو «أن سيرة هذه الطبيبة - لثرائها - تصلح لأن تكون عملا دراميا جاذبا غنيا بالتفاصيل الإنسانية، كقدوة ريادية ونموذج على التحدى والاستنارة السابقة لعصرها».
وكان عبدالرحمن أفندى، والد مفيدة وتوحيدة، موظفا فى هيئة المساحة، يسكن فى حى الدرب الأحمر فى بيت يملكه بجوار مسجد السيدة فاطمة النبوية، كان من طبقة الأفنديات التى بنيت عليها الطبقة المتوسطة بمصر فيما بعد، واشتهر بجمال خطه، فنسخ المصحف الشريف ١٨ مرة بالرسم العثمانى، ومرة بالرسم المغربى، ثم قرر أن يشترى مطبعة على نفقته لطباعة المصحف وتيسير انتشاره، وكانت توحيدة قد نجحت بتفوق فى البكالوريا عام ١٩٢٢، فرشحتها مس كارتر، ناظرة المدرسة السنية، لدخول المسابقة التى أعلنت عنها الحكومة المصرية لاختيار ست طالبات متفوقات لإرسالهن فى بعثة إلى بريطانيا لدراسة الطب برعاية ملك مصر فؤاد الأول، وكانت توحيدة من بين الفائزات الست بالبعثة. وفى لندن أثبتت توحيدة كباقى قريناتها تفوقا ملحوظا فى دراستها، ولم يعترض والدها على بقائها فى الخارج لعشر سنين، بل شجع ابنته على السفر، وذهب معها إلى بورسعيد لتحملها السفينة إلى بريطانيا العظمى، وطلب منها وهو يودعها أن تخلع اليشمك «الزى المميز للمصريات فى ذلك الزمان»، وترتدى الملابس على الطريقة الأوروبية حتى لا تبدو شاذة فى المجتمع الإنجليزى، ولا يعاملونها باستهانة وبنظرة دونية.
إذاً فقد كانت هناك ٦ بنات مصريات فى أول بعثة نسائية توفدها الحكومة المصرية: ٥ مسلمات ومسيحية، وقد حرصت توحيدة على تسجيل يومياتها طوال فترة بعثتها. وفى صيف ١٩٣٢ عادت بعد عشر سنوات فى لندن حاملة شهادة الدكتوراة فى الطب، وكان ذلك حدثا فى وقتها اهتمت به الصحافة المصرية، فنشرت مجلة «اللطائف المصورة» فى ٦ أغسطس ١٩٣٢ الخبر الآتى: «وردت الأنباء التلغرافية بأن الآنسة توحيدة عبدالرحمن اجتازت امتحان الدكتوراة فى الطب من إنجلترا وفازت بهذه الشهادة العالية، وبذلك أصبحت ثانى آنسة مصرية تحوزها بعد هيلانا سيداروس، زميلتها فى البعثة، والتى عادت قبلها بأسابيع».. ولدى أيمن الحكيم نقف على تفاصيل أخرى، منها أن عبدالرحمن أفندى واحتفاء بابنته التى شرفته قرر أن يشترى لها شقة فى شارع عدلى بوسط البلد، لتحولها إلى عيادة تستقبل فيها زبائنها من المرضى، لكنها فضلت أن تعالج المرضى دون أجر والتحقت بأحد المستشفيات الحكومية لتعالج المرضى بالمجان، وتم تعيينها فى «مستشفى كتشنر الخيرى»، الذى أصبح فيما بعد «مستشفى شبرا العام»، فكانت بذلك أول طبيبة فى الحكومة المصرية وثانى مصرية تحصل على درجة الدكتوراة فى الطب بعد زميلتها هيلانا سيداروس.. وكانت توحيدة قد تزوجت من قاضى «السيارة الجيب» فى ١٩٥١، وكان عضو اليمين فى المحكمة التى حكمت بالإدانة على عدد كبير من أعضاء جماعة الإخوان، كما كشفت عن جرائم تنظيمها المسلح، وبسببها قررت الجماعة الانتقام من القاضى الجليل وحاولت اغتياله بإطلاق الرصاص عليه فى فيلته بالمعادى، وتصوروا أن الشخص الجالس وراء الشباك هو هدفهم، لكن المستشار محمود عبداللطيف كان وقتها فى الصعيد فى مهمة قضائية، ولم يكن بالفيلا سوى زوجته الدكتورة توحيدة التى نجت من موت محقق، كما كان عضوا فى المحكمة فى قضية الجاسوسية الكبرى فى ١٩٥٦، حيث جرى الكشف عن شبكة مخابرات بريطانية والقبض على أعضائها.