بقلم - عادل نعمان
ولابد أن نعترف بداية بهذا، أنهم قادرون على اختراق الصفوف والتسلل خلف الأبواب، واستقطاب الشباب، والتأثير على العوام بل قطاع من الخواص أيضًا، ولو كانت كل تجارب الحداثة قد نجحت بما يحقق الكفاية ما كان لهذا الحشد من سبيل أو حجة، ولو كانت الأيدلوجيات والتجارب الاقتصادية قد حققت النمو المطلوب أو العيش والكرامة الإنسانية المقصودة ما كان لهذه التعبئة من رجاء أو ابتغاء، ولو كانت رسالة التعليم والثقافة قد وصلت إلى مرامها أو قريبة منها ما كان لهؤلاء من مكان فى مقدمة الصفوف وما كان لدعواهم من إجابة، إلا أنهم فى هذا يقدمون البديل والحل الذى يرجونه ويأملونه، وهم يسلكون فى هذا سبيلًا بين الإفك مرات والاستقامة مرة واحدة، وبين الأباطيل أطوارًا والنزاهة طورًا واحدًا ولا يزيد، فيميل الناس بين هذا وذاك ميلًا بين التصديق والتكذيب، وهم بين كل هذا ملامون ومرحبون ومنكرون ومتعاطفون وحدهم بلا مرشد أو دليل أو حكيم.
وهم بارعون فى تأويل النصوص والعقائد وفقًا لمرادهم، وخدمة لترتيب أولياتهم السياسية، وهم فى هذا بين صدق النص وإفك التأويل يروجون وينشرون الأباطيل، ويخادعون بل يضللون، حتى إنهم قد حادوا بالدين عن وظيفته الروحية والإنسانية، وذهبوا به إلى المفارق السياسية، وقلبوه من دعوة دينية روحية إلى دعوة دنيوية بأطماعها، وباتوا وهم معارضون لكل الأنظمة فى حدة وشراسة وبعيدة عن منظومة الدولة، وتعمل دائمًا خلف الأسوار وداخل الأنفاق، وهم فى هذا عازمون كل العزم على الوصول إلى السلطة تحت دعاوى أن السلطة يزع لها ما لا يزع بالقرآن «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» وهى الوسيلة والسبيل لإعلاء كلمة الله فوق الجميع، وهى كلمة حق يراد بها باطلًا، فإن هذه المقولة العثمانية «نسبة إلى عثمان بن عفان» كانت حول مبدأ إقرار الخلافة بالغلبة والقوة، وليس إقرار الدين أو العقيدة، فلا سلطان على القلوب، ولا تخضع إلا بالرضا والقبول.
والفجوة شاسعة بين النص ومقاصده وبين تأويله السياسى والهدف منه، حتى لتظن حين تحتكم إلى العقل أن هذا التفسير ليس من عند الله، وليس من الدين فى شىء، بل يتناقض مع النص الصريح، فليس هناك نص فى القرآن مثلًا لقتل المرتد، أو عقوبة دنيوية، بل النص واضح وضوح الشمس «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» و«لكم دينكم ولى دين» وليس هناك أيضًا عقوبة لتارك الصلاة أو الزكاة، وأمر هؤلاء عند الله يوم اللقاء، إلا أن تسييس الدين استدعى أن يكون هناك عقوبة لهما دون نص قطعى الدلالة والثبوت، ولا يقف أمر التأويل السياسى عند هذا فقط بل تجاوز إلى تفسير الحاكمية، والكافر، والولاء والبراء، وقوامة الرجل على المرأة، والإسلام دين ودولة، وتخطى ما لا يمكن أن يتخطاه وهو أمر الجهاد الذى يحول الأرض إلى حرب وقتال بين المسلمين وغيرهم، بل بين مذاهب المسلمين بعضهم بعضًا، والإفراط فى استخدام مبدأ الجهاد على هذا النحو فى كل صراع بين دولة إسلامية وغيرها يضع الدين فى منافسة ومقارنة إذا ما كانت الغلبة للدولة الكافرة بتفوقها وقدرة سلاحها وتدريبها وإمكانياتها، وهو ما نواجهه الآن فى حرب حماس وإسرائيل، فيكون السؤال: لماذا وكيف ونحن على الحق وهم على باطل؟ وهو سؤال ليس فى محله، فلو نزل البحر زنديق ومؤمن يخرج سالمًا من يجيد السباحة !! ولا عبرة هنا للتدين والإيمان.
والتكفير كمثال، وهو كما قلنا، أصابه تدخل بشرى حاد، حاد به عن منهج العدل خصوصًا أنه حق للإنسان كفله الله فى قرآنه «إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء»، «ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء»، فبينما كان المرتد أو الكافر منوطًا بالله حسابه وعقابه، فإن الفقهاء أفرطوا فى عزله وأسرفوا فى قتله، ولا يقف الأمر عند تهمة التكفير فقط، بل بالغوا فى عقابه، وأجمع الفقهاء على أن يُطرد من المجتمع ويحارب ويحاصر لا بيع ولا شراء ويهدر دمه «من حق آحاد الناس قتله» وتصادر أمواله وممتلكاته، ويفرق بينه وبين زوجته، ويسحب سلطانه وولايته على أولاده، ويحرم من الميراث، وإذا مات لا يُدفن فى مقابر المسلمين ولا يُغسل ولا يصلَّى عليه، وأوجبوا جميعًا قتله بعد استتابته ثلاثة أيام، ولم يكن هذا التشدد وهذا الإسراف إلا سبيلًا للنيل من رقاب الخصوم والمعارضين، وقُتل التقاة المعارضون بسيفه أكثر مما قُتل العصاة الموالون والمنافقون.
وللحديث بقية «الدولة المدنية هى الحل.