بقلم - عادل نعمان
وكنت أتساءل فى الصغر لماذا تطارد سيارات الشرطة فى الأفلام الأجنبية كل من يخالف قواعد المرور بكل هذه الصلابة والخشونة والمخاطرة؟ وقد تشترك طائرة هليكوبتر أو أكثر فى المطاردة وتتعقب المخالف فى تحدٍ بالغ، وربما تتصادم سيارات الشرطة بعضها مع بعض، أو مع سيارات المواطنين أنفسهم، على الرغم من أن قيمة المخالفة لا تتعدى جنيهات أو دولارات معدودة، وكنت أقول بينى وبين نفسى: هل تصل الخسائر والتلفيات التى تتكبدها جميع الأطراف إلى قيمة المخالفة، حتى تصر الشرطة على تحصيلها؟ وتأكدت فيما بعد، من كثرة السفر والترحال، أن الواقع قريب من هذه المشاهد وربما يتجاوزه فى الكثير، وكأننا على موعد مع الفنان فؤاد المهندس والفنان حسن مصطفى فى أحد الأفلام التى طارد فيها الأخير أحد المقاولين لإصلاح «شنكل» أحد شبابيك المؤسسة الحكومية التى ينتسبان إليها، وذلك بمئات الرسائل والدعاوى والمطالبات، وكان ثمن «الشنكل» لا يتعدى مليمات معدودة، إلا أن الفنان حسن مصطفى كان على حق، وكنا نحن والفنان فؤاد المهندس نسخر منه على سوء تقديره وحساباته، واحسب أن فريق المهندس كان على خطأ، لأن القانون واجب النفاذ دون معادلة أو مقارنة أو حساب الربح والخسارة، حتى يستقر فى وجدان الناس أن القانون نافذ على الصغيرة قبل الكبيرة، ولا يعرف، عند تطبيقه، الجمع والطرح، أو المسايسة أو المهادنة «فيتراجع السايب ويرتدع المربوط».. هذه الأولى.
أما عن الثانية فهى «هيبة الدولة» أو احترام الدولة والخوف منها وعليها، والحرص على عدم إثارتها أو تهييج أعصابها، ولا يتأتى هذا إلا إذا اطمأن المواطن إلى استقرار ورسوخ مبدأ العدالة فى نفوس القائمين عليه، وكذلك يسكن فى يقينه أن الدولة تكفل الحريات وتحترم حقوق المواطن وكرامته بحيادية وتجرد، لا تفرط فى حق طرف، ولا تنحاز لطرف دون الآخر، أو قلها بوضوح «إنفاذ القانون» واحترامه والتزام الدولة بتطبيقه بصرامة وصلابة دون تساهل أو رخاوة أو مواءمة أو مسايسة على الجميع، فلا تكتفى الدولة بمطاردة مخالفيها والمتهربين من الضرائب والجمارك والتجنيد أو تراخيص السيارات ومخالفات البناء على الأراضى الزراعية، وتتغاضى عن تنفيذ الأحكام الصادرة لصالح الناس، سواء أكانت ضدها أو بعضهم البعض، فإذا هان الشعب على الدولة هانت الدولة عليه، وإذا تكاسلت وتباطأت فى تنفيذ أحكامه تفشت الجريمة وأعلنت عن نفسها دون خجل أو حياء أو ستر، ويختلط الأمر على الناس وتتوه الفواصل والحدود بين الخطأ والصواب، وبين الحق والضلال، وبين الفشل والنجاح، وبين القدوة الصالحة والفاسدة.
ولا يكتمل البناء القانونى بالعدل والمساواة والتكافؤ فقط بل بتنفيذ الأحكام بدقة، وهو أمر لنا فيه وقفة لابد أن نعترف من البداية أن منظومة تنفيذ الأحكام فى مصر منظومة معيبة إلى مسافة بعيدة، وإلى درجة يصعب معها استقرار الأمور، وكلها دعائم تحقيق السلام الاجتماعى، وركيزة مهمة لاستقرار الدولة، وثقة الناس فى قدرة الدولة فى الحفاظ على الحقوق والممتلكات والأرواح والإعراض وحماية المجتمع، والأهم التشجيع على الاستثمار، فلا يفوتنا أن هذه المنظومة أحد عوامل الجذب إذا نجحت، وأول عوامل الطرد إذا فشلت، المستثمر يضع نفسه داخل هذه المنظومة، إذا اضطر ودخل فيها جانيا أو مجنيا عليه.
والمواطن «أى مواطن» دائم جس نبض الدولة «أى دولة» واختبارها، وتحسس مواطن الضعف والقوة، فإذا أدرك قوتها وسلطانها انضبط وامتثل، وإذا شعر بهشاشة ورخاوة وميوعة الدولة استوحش وتغول وتجرأ عليها، ولك عزيزى المسؤول العظة والعبرة فى التزام قائد المركبة دون مخالفة السرعة المقررة لمجرد معرفته بوجود رادار على الطريق، هكذا يجب أن يكون وجود القانون فى حياة الناس، يشعر به كل المواطنين فى حياتهم صباح مساء.
ولا أعرف دولة تتكاسل عن تنفيذ القانون والأحكام، إلا إذا كان عن قصد وليس عن ضعف، بدليل أنها تشد الناس شدا إذا أرادت، وترفع من تريد له الرفعة ولا يستحق، وتذل من تغضب عليه وتريد له الذلة ولا يستحقها ، وتحصل الجنيه والسحتوت من الفقير قبل الغنى، وتهدم بيوت المخالفين إذا أرادت، وتطارد الإرهاب إذا اقترب منها وغازلها، وتلاحق المطاريد فى الجبال بالطائرات والدبابات حتى تسوقهم إلى السجون، وتكشر عن أنيابها وتغرسها فى لحم الضحية، وهى نفسها التى تكف يدها حين تخرج الدراسة الأمنية تقرر عدم قدرة الدولة عن تسليم شقة لوريث أو كراكيب من منقولات مطلقة ضعيفة مغدورة.
إياكم أن تظنوا أن هذا المستريح وغيره لم ينصبوا على الناس إلا بعد أن تأكدوا من رخاوة القانون، وما حرق أصحاب الحقوق التى سلبها هذا المستريح من الممتلكات الخاصة والعامة إلا لعلمهم المسبق بتكاسل القانون فى رد الحقوق، وما صفع هذا الصيدلى السيدة نيفين صبحى المسيحية إلا ثقة فى تمييزه وتقدمه عنها، وما لطمت هذه السيدة البنات السافرات فى المترو إلا اتكائها على التحيز والتعصب لها، القانون هو السيد إذا غاب غابت كل القيم وإذا حضر كانت حاضرة قائمة. (الدولة المدنية هى الحل).