بقلم - عادل نعمان
ويحاول تيار الإسلام السياسى أن يؤرخ ويؤصل لشرعية الدولة الدينية، ويعتمد وجوبها منذ حطَّ الرسول رحاله فى «أثرب» يثرب، ويرصدون خطوات بنائها حين بدأ بتخطيط المدينة وتحديد مراكزها ورسم حدودها وترقيم أطرافها ووضع علامات مميزة على جوانبها، وبنائه المسجد وما حوله من حجرات لإقامته وآل بيته، ووثقوا هذا على أنه تحديدٌ لشكل الدولة وأركانها وإقامة عاصمتها وتشييد دار للحكم، إلا انهم أغفلوا أمرين الأول: أن الرسول لم يشيّد دارا للحكم، بل كان المسجد للعبادة والتعليم والإرشاد والتوجيه والتفقه فى الدين وإبلاغ الوحى عن الله والفصل فى النزاع بين الناس، ومركزا لإقامة من لا مأوى لهم، ومركزا للقيادة العسكرية وتنظيم الغزوات والسرايا. والثانى: ما قاله الرسول لما خطَّ الحدود والحرم «لكل نبى حرم، وحرمى المدينة».. هكذا قالوا، فهى دولة الرسول أو دولة النبوة، شاغلها الرسالة وتمكين الدعوة وحفظها وصيانتها، والأهم أن يشب هذا المولود الجديد فى أمان محاطًا بسياج حول المدينة يقيه شر أهل مكة وغدرهم، ويحفظه من الصراع التاريخى المتأجج بين الأوس والخزرج فى المدينة وتربص يهود المدينة به، ولم يكن شاغل الرسول إقامة الدولة، بل الحفاظ على رسالته الجديدة.. هذه دولة الرسول.
أما عن وثيقة المدينة «كتاب الموادعة بين المهاجرين والأنصار واليهود وقدامى العرب»، فهذا هو اسمها التاريخى الواقعى، وليس كما أطلقوا عليها «دستور المدينة»، لصبغتها سياسيا وتأصيلا لفكرة الدولة الدينية. ولفظ دستور هو لفظ حديث «اصطلاحى»، وليس هو المقصود من هذه العهدة أو هذه «الموادعة»، ولم يكن أمر الوثيقة إلا دعوة واضحة للعيش فى سلام بين أهل المدينة بقبائلها وفصائلها (المهاجرون والأوس والخزرج وبنو عوف وبنو الحارس وبنو سعادة وبنو جشم وبنو النجار وبنو عمرو بن عوف وبنو النبيت وبنو ثعلبة) «ومعظم الفصائل من اليهود، وقد كانت لهم الثروة والمال والتجارة». وكان الهدف من الوثيقة هو «الموادعة والمسالمة والمهادنة» ووحدة الصف والتصدى لأى عدوان خارجى على المدينة، خصوصا من مكة، وضمان حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية لكل الأديان، بما فيها عبدة الأوثان!، حسب رغباتهم جميعا ودون مضايقات من أحد.
ونتصور أن هذه الوثيقة كانت فى مصلحة المسلمين حفاظا على الدين الجديد، ولم يكن فى الوثيقة ثمة إشارة للدولة من قريب أو بعيد، فهجرة الرسول إلى المدينة هجرة دين وليست هجرة سياسة، وإقامة دين وليست لإقامة حكم.
ولم يكن النزاع فى سقيفة بن ساعدة على خلافة الرسول، بل عودة حق الريادة والقيادة إلى الأنصار بعد غياب صاحب الرسالة ودولة الرسول التى تنازلوا عنها عن طيب خاطر لإتمام الدعوة.. هكذا عبر أحدهم بهذا: «أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط النبى، وقد دفت دفة منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا، وتحصنونا من الأمر».. والمعنى: نحن الأنصار جيش الإسلام ومجاهدوه، وأنتم عشيرة النبى وأهله، وقد سارت جماعة منكم تختزل الأمانة ولا تقبل ردها لأصحابها وتمنع ردها إليهم «والأمر هو الحكم، وقد كان أمانة عند الرسول، أما وقد اكتملت الرسالة وقبض صاحبها، فوجب على أهله وعشيرته ردها إلى صاحبها ردا جميلا، هكذا كان موقف الأنصار، ولو كان الرسول قد أسس دولة دينية، ما كان الصراع فى سقيفة بن ساعدة كاد يحسمه السيف، لولا خذلان الأوس لسعد بن عبادة، سيد الخزرج، ووقوفهم فى صفوف المهاجرين فى بيعة أبى بكر بديلا عنه ونكاية فيه وفى قبيلته حين عاد الصراع يطفو على السطح مرة أخرى».
فماذا قال أبو بكر؟ وماذا فعل عمر فى سقيفة بن ساعدة ردا على ما قال الأنصار؟ قال: «هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش، هم أوسط العرب دارا ونسبا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، وأخذ بيد عمر وأبى عبيدة»، إلا أن عمر بسط يده إلى أبى بكر يبايعه وعاونه على هذا رهط من الأوس، واجتمع القوم على هذه البيعة، ولو ذهبنا إلى خطبة أبى بكر فى المسجد للبيعة فلن نجد فى كل هذه الوقائع من أولها حتى جلوسه على كرسى الخلافة ما يشير من قريب أو بعيد لنظام الدولة أو معايير الاختيار أو شكل البيعة.. ولو كان الرسول قد وضع قواعدها، ما كان لهذا الشقاق والخلاف من سبيل، بل اتبعوا سُنة النبى فى هذا دون مراجعة أو تردد، فقد كانوا فى طاعة نبيهم، صغيرهم وكبيرهم، سواء أكان حيا أو ميتا.. وما ذهب أحد من الأنصار بعد وفاته إلى بيعة سعد بن عبادة سيد الخزرج.
وللحديث بقية..
«الدولة المدنية هى الحل