بقلم - عادل نعمان
والدولة الدينية بكل فصائلها وعشائرها حريصة أشد ما يكون الحرص على إذابة المواطنة فى القومية الدينية الإسلامية، بقدر ما وسعتهم الحيل وما استوعبه الجهلاء ورحبوا وأفسحوا له الطريق، أو قل هذا ما عليه الأممية الإسلامية، وهى أمة واحدة تنصهر بينها الحدود والفواصل، لا تحدها سياسة ولا تفصلها عوازل، الكل فى واحد، يخرج المسلم صباحا على فرسه من الشرق لينام فى أقصى الغرب، فإذا عاد، وجد فراشه لم يمسسه أحد، مسلم فى دولة ماليزيا أقرب إلى المسلم فى الدولة المصرية من هذا المسيحى الذى يفصل بينهما جدار، يسمعه فى المساء حين يئن فيسعفه ويواسيه ويأخذ بيديه، إلا أن قدم الماليزى تسبقه إلى الشفاء.. حفنة من تراب تنفضها هذه الأوطان عن ملابس الإحرام، نفتح أبوابنا لكل مسلم يجول ويصول حتى لو كان العيش شحيحا والفقر كثيرا، فنقدم له الطعام دون الأبناء.. هكذا يشعر المرافقون لنا بالغربة والوحدة حتى داخل أوطانهم، وهو نفسه فى وطنه لا يراها مقاما أو مستقرا أو مثواه فى القريب أو البعيد.
ولا عجب عند هؤلاء أن تكون قبلتهم وانتماؤهم متجهًا نحو هذا البلد منشئ الدعوة، وقد كان يوما صلبا ومتشددا، حتى لترى بأُم عينيك أن مصلحة هذا البلد تسبق مصلحة أوطانهم وتتفوق عليها، أمنها وأمانها يسبق الجميع.. وإذا تشددت وتعصبت رفعوا لها البيارق والرماح.. وإذا لانت أو تساهلت وغنت ورقصت، رقوا لحالها وطلبوا لها العفو والسماح. وتلمس هذا التفريط المذهل فى استحلالهم أموال الفقراء حين يربطون على بطونهم من الجوع ليتمكنوا من أداء شعيرة- حجا كان أو عمرة- حتى ولو كانت بالتقسيط المريح، المهم أن تخرج من بيوت الفقراء إلى بيوت الأغنياء، ومن بطون أهلكها الجوع إلى كروش أتعبها الشبع والتخمة، أو تتجه قبلتهم وأحلامهم وأمانيهم لكل مخادع يطلق صيحة الجهاد، أو يرفع راية الخلافة فيتبعونه دون وعى أو إرادة وكأنه المُخلّص من الظلم والمحرر من الاستعباد وهو ليس بقريب، هل رأيتم بأعينكم هذا التضليل والتزييف تجاه داعش فى العراق، وطالبان فى أفغانستان، والسعى والهرولة خلفهم شوقا للخلافة؟.. وهذه جماعة حماس وما فعلته بشعبها من قتل الأطفال والنساء وخراب ودمار الديار وتصاعد طبول المنافقين تزف الضحايا إلى الحور العين وأبناؤهم يفترشون العراء جوعى وجرحى.
المهم أن صيحات الجهاد تسبق أنين الأطفال، وتتقدم على الحكمة والعقل، ويتفوق القرار الشعبوى والعشوائى على دراسة الموقف وتبعاته، حتى وهم ينادون بالحرب ويحرضون عليها شعوبهم وجيوشهم، هم على يقين تام بأن تكاليف الحرب باهظة، ودمارها شامل، وخرابها قادم لا محالة، إلا أنهم يبيعون أوطانهم لشعارات مزيفة دون حساب وبلا ثمن، غير عابئين بمصالح وأضرار أوطانهم.
ولما كان الجهاد واجبا على مسلم دون إذن أو رخصة، ويجوز فيه الخروج على الحاكم إذا منعه، (هذا ما أفتى به مشايخنا الأوائل، وسار عليه مشايخ الجهاد، واعتبار الشهيد من مات فى سبيل إعلاء الدين فقط وليس من مات فى سبيل الدفاع عن الوطن، كما أفتى بهذا أحد أوليائهم الصالحين المحدثين).. فقد أباحت وسمحت هذه الفتاوى بتكوين الميليشيات والمنظمات الإرهابية، خروجا على سلطة الدول والدستور والقانون، بل الأدهى أنها فتحت البلاد وحدودها إلى انتقال هؤلاء المتطرفين من بلد إلى آخر، تحت دعاوى نصرة الدين ومحاربة المنافقين والقضاء على الكفر والكافرين، وأُبيحت الحدود وانتُهكت القوانين، وأحلت الأرواح والدماء، وأجيزت السرقات والغنائم، وبات المسلمون على شقاق ونفاق وقوميات تتصارع مع القومية الوطنية وتلتف حولها من كل جانب، تستقطب فئات عريضة من الشعب تحت دعاوى نصرة الدين والإسلام، فتحارب الاشقاء، وتتقاتل المذاهب والفرق، حتى قتل بأيديهم أكثر مما قتل فى الثورات التحررية والاستقلال.
ولا أتصور أن هناك مؤامرة على هذا الشعب أكبر من مؤامرة هذا التيار الدينى السياسى، ولا أرى فى خطواتها حسن النوايا، بل يدفعون الناس دفعا إلى الدمار تحت غطاء شرعى مزيف، أو توريط جيوشها فى أتون حرب لا تذر، أو انقسام دينى بين المتطرفين منهم والمعتدلين، أو عداء بين المغتربين من المسلمين وبين بلاد كثيرة استقروا فيها وعاشوا فى كنفها وأولادهم.
وليس من سبيل أمامنا سوى الانتباه جيدا لدعاوى التحريض والشحن والإثارة والإهاجة، وتثبيت أركان دولة المواطنة ودولة القانون، ورفع راية القومية المصرية دوما فى كل اتجاه، والتركيز عليها فى المدارس والجامعات بنماذج مصرية ناجحة فى المجالات العلمية والعملية، والبعد عن نماذج الجهاد والقتال التاريخية الخارجية.. والأهم حرية المواطن فى مناقشة شؤون بلاده برحابة صدر دون قيود أو مطاردات ليكون شريكا فى بناء المستقبل.
إن صناعة الانتماء فن وعلم ودراسة.. فليتقدم أصحاب العلم والخبرة.
«الدولة المدنية هى الحل»