بقلم - عادل نعمان
وعن مطرقة رجال الدين وسندان رجالات السياسة، يقول الشيخ على عبدالرازق: (إن رجال الدين فى جميع الأمم والعصور يطلبون الحكم، ويريدون أن يكون بيدهم زمام الناس، يأمرون فيهم وينهون، ويحرمون عليهم ويحللون، فإذا لم يستطيعوا أن يكونوا هم أنفسهم ولاة الأمر وأرباب السلطان، التجأوا إلى رجال الحكم السياسى يستمدون منهم القوة ويتخذونهم وسيلة إلى الحكم. والحكام السياسيون من الجهة الأخرى يريدون أن يكون لهم على قلوب الرعية سلطان دينى، يثبت لهم الحكم ويمكّن لهم من رقاب الأمة، لذلك كانوا يزعمون أنهم ينوبون فى الحكم عن الله).
رحم الله العلامة ما بقى هذا الحلف قائما.. نحن صناعة هذا الائتلاف بين رجال الدين ورجال السياسة، فما كنا من أهل الدنيا ولا فزنا بالآخرة، ورحم الله عقيل شقيق الخليفة على حين اشتراه الخليفة معاوية وترك جيش شقيقه ليحارب فى صفوف معاوية، ولما سأله معاوية عن أخيه، رد عليه «أخى خير لى فى دينى وأنت خير لى فى دنياى» فكان صادقا مع مراده، وكذلك يفعلون.
والخلاف بين الطرفين، وإن بدا بينهما ظاهرا ومحتدما حتى القطيعة، إلا أن هذا الخلاف وهذه القطيعة على خشبة المسرح فقط «شىء لزوم الشىء»، والود موصول خلف الكواليس «سمن على عسل»، وما قطع أحدهما أمرا إلا وكان للطرف الآخر المشورة والأجر والثواب.
وأكاد أجزم بأن مقولة «الإسلام دين ودولة» بداية «التأصيل الشرعى» لرجال الدين لهذا الحلف «وعهد وذمة وكفالة» لرجال السياسة لهذه الخدعة، وهى وثيقة دم بين الطرفين لا يتخلى أحدهما عن الآخر، شقائق بلا انشقاق، والتزاق دون افتراق، واقتران دون هجران، ولا أتصور أن بداية هذا العهد جاءتنا منذ الخليفة معاوية حين حوّلها إلى مُلك عضوض، حين أحاط نفسه برواة الأحاديث، ولا كان منذ عهد الخليفة عثمان حين مكن بنى أمية من مفاصل الخلافة، حين ألبس نفسه قميصا ألبسه الله، ولا كان منذ عهد أبى بكر حين حول وجهة الجيوش الستة من تأديب أهل الجزيرة إلى غزو بلاد الشام وفارس، وذلك لصرف المقاتلين عن العودة إلى المدينة التى لا تقوى على طموحاتهم واحتياجاتهم، ولا كانت يوم سقيفة بن ساعدة حين دب الخلاف بين المهاجرين والأنصار على الخلافة وكادت السيوف تخرج من أغمادها للاستيلاء على الحكم والريادة.
واسمع ما قاله العميد طه حسين فى كتابه «فى الشعر الجاهلى» لتتعرف على الزمان والمكان (حين كان النبى وأصحابه مستضعفين، فقد كان الجهاد جدليا خالصا، وكان النبى يكاد يقوم به وحده، يجادلهم بالقرآن ويقارعهم بالآيات المحكمات، وهو كلما بلغ من ذلك حظا انتصر له قومه حتى تكوّن له حزب ذو خطر، ولكنه لم يكن حزبا سياسيا، غير أن هذا الحزب كلما اشتدت قوته اشتدت مناضلة قريش له، حتى كان السبيل الفرار والهجرة إلى المدينة، ونستطيع أن نسجل مطمئنين أن الهجرة قد وضعت مسألة الخلاف بين النبى وقريش وضعا جديدا، جعلت الخلاف سياسيا، يعتمد فى حله على القوة والسيف، بعد أن كان دينيا يعتمد على الجدال والنضال بالحجة ليس غير).. انتهى.
وقد كان أمرا طبيعيا حين كانت الهجرة هروبا بالدعوة الوليدة، إلا أن هذا الأمر لم يتغير، وقد أصبح صكًا مقبولًا ساروا عليه واعتمدوه كما كان من قبل، وأضحى الفكاك منه وحلّه كحل العروة الوثقى وزيادة، وقد كان من اللازم أن يعود الدين كعهده بعد زوال الأسباب التى فرضت عليه.
فإذا ما رأيت دولة يتصدرها رجال الدين، ويشغلون القنوات الفضائية، ويقتحمون البيوت من كل المنافذ حتى غرف النوم وبيوت الراحات، ويملأون الفاضى والمليان والفراغات والثغرات.. فاعلم أنه اختيارات رجالات السياسة والحكم.
وليس من حل لضحايا هذا التحالف الدينى والسياسى المستبد سوى «التنوير والتعليم وإضاءة الطريق أمام الشعوب»، فهى الضمانة والحصانة من مؤامرة التجهيل، وهى الطريق إلى المعرفة والفرز فى مواجهة سياسات التعتيم والتضليل، وهى السبيل إلى الوعى لإدراك الحقائق، والنور الذى يطارد الظلام والأوهام والخرافات، وهى أيضا حائط الصد ضد تغول السلطة السياسية والتعدى على بنود العقد الاجتماعى وفرض سطوتها وسلطانها على حقوق الشعوب ومصادرة الحريات، والسبيل الأمثل والناجح فى حسن الاختيار والانتقاء، وإفساح الطريق للأمثلة والقدوات العلمية والخبرات الميدانية، لتتقدم الصفوف والميادين وتقود الأمم للنجاح، فلا نجاح دون علم واستنارة، ولا تقدم دون خبرة، ولا فلاح دون حرية.. هى الأصل والأساس لكل ما سبق.
«الدولة المدنية هى الحل