بقلم - عادل نعمان
ومن خصائص دولة الرسول أنها لا تنسحب ولا تؤول لغيره، ولا تتكرر ولا يقدر ولا يصل إلى مرتبتها سواه، ولا يزاحمه ولا ينافسه فيها منافس أو مزاحم، وهى ليست ميراثا لوارث، أو بيعة لخليفة تنعقد له بالغلبة أو بالرضا، بل من يخلفه فى الدنيا لا يخلفه فى الدين، ومن يتوج على مقعد الحكم لا يتوج على مقعد النبوة، ومن ينصَّب بعده خليفة ليس عنده سند أو عون من السماء كما كان، وأن من يبايعه الناس فهو يحكم بما يقدر وبما يشار عليه من الرفاق والوزراء وبمن انتخبه واختاره، وهو لا يقطع أمرًا إلا بمشورتهم.. هكذا يجب أن يكون.. إلا أن دولة الرسول يبايعه فيها ويراجعه ويشرع له ربه، ويطمئن الناس لحسن القرار ويأمنوا لطيب المآل والمصير.
ودولة الرسول متفردة فى تكوينها ومفرداتها وأعمدتها وأركانها وخصائصها، قائمة على الثقة والمحبة والقلوب المطمئنة، فلا يعكر صفو أجوائها سحب معتمة، ولا يحجب نور الود حاقد أو حاسد، مطمئنون ساكنون هادئون ومطيعون، ذات ملامح متميزة ومواصفات فريدة لا تتكرر، لا تخضع فى تكوينها لاعتبارات الدولة المحايدة أو الحليفة أو دولة الجوار أو حتى دولة الأعداء، فهى دولة يترأسها نبى ويشرع لها إله، ويمتثل الناس فيها للقرار والحكم عن طيب خاطر ورضا، يأمنون لصاحبها وصاحب صاحبها.. وإن جادلوا وتحاوروا، كان الجدال والحوار بين الأنفس، لا يتخطاها أو يتجاوزها، أو يدور على استحياء فى الغرف المغلقة.. وحين اللقاء، فإن لقاء النبوة له بريق وسحر يجعل القلوب تقبل قبل العقول بالرضا والحب.. هكذا كانت دولة الرسول ودولة القلوب، ولم تتأتَ لأحد بعده.
وقد فطن الرسول منذ بداية الدعوة لشكل الدولة التى توافقه وتكتمل الدعوة بها وتستقيم تحت سيطرته وقيادته، ولم يكن متاحا له هذا فى مكة، حين حالت قيادات مكة وملأ قريش وسادتها وزعاماتها بما لهم من السطوة والنفوذ والمنع والحظر دون نشرها، بل والسماح لها أن تولد أو تتنفس.
وأتصور أن هجرة الرسول إلى المدينة، وبيعة سادتها كانت على هذا الشرط؛ أن تكون هذه الدولة الناشئة الجديدة تحت قيادته وريادته بجناحيها، الدينى والدنيوى، تحت راية الرسالة والنبوة، يضمن سلامة الرسالة وأمن واستقرار الدعوة، وتنمو وتزدهر ويشتد عودها فى كنفها، ولم يكن متاحا هذا فى المدينة إلا إذا كانت القيادة قيادته والزعامة زعامته دون شريك أو رفيق، ويتنازل عنها سادة الأوس والخزرج، وقد كان اتفاقا واضحا فى البيعة، مارس الرسول مظاهره حين وطأت قدماه الشريفتين المدينة منذ اليوم الأول، فلم نسمع عن معارض أو مخالف لقرار قد اتخذه وقت وصوله، ولم نر تجمعا يرفع راية المعارضة لحكم أو أمر قد ارتضاه.
وليست دولة الرسول إلا نموذجا واحدا لا يتكرر ولا شبيه له، ولا يدعى أحد أنه خليفة النبى، أو ظل الله على الأرض، كما زعم أمراء بنى أمية والعباسيين والفاطميين والعثمانيين وكل من سار على دربهم، أو ظن أحد من خلفاء اليوم أن دولة الرسول من الجائز أو المسموح أن ينسخها نسخا أو يحاكيها ويكررها تكرارا، فإن دولة الرسول قد رفعت كما رفع، وقبضت كما قبض.
وكان أمر الله مفعولا، وإلا فقد كان أولى لصاحب الرسالة أن يؤكد عليها ويوصى بها ويضع قواعدها ويرسى دعائمها ويسطر كتابها ويرسم خطوطها كاملة، حتى يقتفى السلف خُطى الرسول، ويلحق بهم التابعون خطوة وراء الأخرى دون تجاوز أو ميل مادامت محفوظة ومحددة، إلا أن الخلاف عليها والشقاق حولها والتقاتل والتناحر عن يمينها وشمالها لدليل أكيد على أن الرسول قد ترك للناس صنعتها وأمرها، كل فريق بما لديهم فرحون.
ودولة الرسول بزمانها ومكانها لا تتكرر، ومهامها والتزاماتها وتعهداتها وواجباتها ومسؤولياتها فريدة ووحيدة، ومهمة الرسول غير مهمة الناس، والثقة فى الرسول تعلو وترتفع فراسخ وأميالا عن الثقة فى البشر، وهى الأصل فى تثبيت أركانها ودعمها، دون مساءلة أو محاسبة، والأمر مختلف فى «دولة المواطنة» مما يجعل الرقابة والمساءلة والمحاسبة أمرا واجبا لمن اختار وانتخب.
والدولة فى مفهومها العلمى كانت واضحة المعالم فى عهد دولة الرسول، وكانت تحيط بها الدول من كل جانب، الدولة الرومانية والساسانية والبيزنطية والفرس وإمبراطوريات اليابان وغيرها، منها ما كان وظل قائما، ومنها ما هزم واندحر، إلا أن شكل الدولة وهيكلها كان معروفا وسائدا، ولم يكن هذا ببعيد عن النبى، إلا أن دولته لم تكن على هذا النحو أو مطلوبا منها هذا.. ولو كانت الدولة تعنيه عنايته بالرسالة، لوضع لها الأسس والقواعد ليسير الناس عليها، إلا أن الدولة الحديثة بعد دولة الرسول لها شكل آخر ومهمة أخرى، وهى دولة المواطن أو دولة الناس، وهى تختلف كليا عن دولة الرسول فى مهامها ومفرداتها وتفاصيلها.
«الدولة المدنية هى الحل»