والتأويل كما ذكرنا فى مقالنا السابق هو: «العودة بالنص إلى مآلاته المتجددة، وكشف أسراره ومخابئه وغاياته ومنتهاه، وخلق معانٍ جديدة غير مألوفة.. وذلك بدليل وبرهان».
والتأويل مرهون بزمن التنزيل وظروفه وأحداثه والمعنى التاريخى للفظ «وليس الاصطلاحى المستحدث». وهو أيضا يدور مع فكر الفرق الإسلامية ومآلاتها ومنتهاها.
التأويل عند «المعتزلة» مثلا مرهون بقبول العقل للتأويل، فهو المخاطب وهو المقدم على النص، والمنوط به الحكم والتكليف، ويمكن أن نطلق عليه «منهج التأويل العقلى»، إلا أن الأشاعرة وأهل السنة والجماعة يدور التأويل لديهم حول المتكلم والمتفوه فقط «صفاته»، ويمكن أن نطلق عليه «التأويل الوصفى أو اللفظى»، ويدور مع عموم اللفظ.
والشيعة ركزوا تمامًا فى التأويل على الولاية والقداسة للعترة والأئمة وآل البيت، فداروا جميعا بالنص حولها، وأخذوه حيث أرادوا، ويمكن أن نطلق عليه «تأويل الولاية».. ولو أردنا أن نزيدكم من الشعر بيتًا، فهؤلاء الذين غزوا وأغاروا على خلق الله لمصالحهم الشخصية قد أخذوا التأويل أيضا إلى مناطق الحروب والجهاد. والجميع يؤصل لفكرته ومنهجه تأصيلا فقهيا.
ولو أردنا أن نستشهد بالتأويل عند أهل الشيعة، فهذه بعض الامثلة، قال تعالى: «مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان. فبأى آلاء ربكما تكذبان. يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان».. قالوا فى التأويل عن البحرين هما «على وفاطمة»، واللؤلؤ والمرجان هما «الحسن والحسين»، وكذلك الآية «وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ».
فكان تأويلهم لهذا الساعى إلى الإفساد هو معاوية بن أبى سفيان، فلا ينسى الشيعة ما فعله معاوية فى «على والحسن»، وما فعله يزيد بن معاوية فى «الحسين» وآل بيت النبوة، وكذلك الآية «وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ»، فكان التأويل انتقال روح النبوة إلى على وأولاده، وكذلك الآية «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» فكان تأويل الولى هو الإمام على بن أبى طالب.. هكذا كان التأويل يخدم انحياز الشيعة لعصمة وإمامة علىّ وذريته.
أما عن التأويل الأيديولوجى «الفكرى أو المذهبى»، فلنا فيه عدة أمثلة توضح كيف يمكن سحب التأويل لخدمة الأيديولوجية الفكرية، منها مثلا الآية «إلى ربها ناظرة» فإن أهل السنة والجماعة والشيعة يقرون برؤية الله عيانا يوم القيامة استنادا إلى لفظ «ناظرة»، كما جاء وصفه «التأويل اللفظى أو الوصفى».. إلا أن المعتزلة ينفون رؤية الله يوم القيامة اعتمادا على الآية «لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ».
فإن الله يدرِك ولا يدرَك، وكذلك الآية «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» وهم أصحاب فكرة التنزيه (تنزيه الله عن صفات البشر) حتى لو كان اللفظ على ذات المعنى، فإن الإنسان يبصر وكذلك الله، إلا أن بصر الإنسان ليس كبصر الله، تماشيا مع الآية «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»، وهو مبدأ معتزلى، يرى النزول والسمع والبصر والاستواء صفات معنوية وليست صفات مادية «التأويل العقلى».. أما الأشاعرة فيرون أنها صفات حرفية ووصف لله كما نزلت.
أما كيف ألزم الكثير من المفسرين والمتأولين عموم المسلمين بأحكام خاصة وأحداث معينة بذاتها، فهذا مربط الفرس، وذلك تحت دعاوى «عموم اللفظ وليس خصوص السبب»، وهم أصحاب الرأى القائل بأن الحكم المنصوص عليه فى القرآن ملزم لعموم المسلمين حتى لو كان هذا الحكم خاصا بشخص أو بجماعة أو حتى نساء النبى، فإن كان حكما خاصا وفى زمن محدد بعينه، يلتزم به كل المسلمين فى كل الأوقات.
وتعالوا إلى آية القتال وكيف كان تأويلها تارة فى صف المسالمين وأخرى فى صف المقاتلين الآية «كتب عليكم القتال وهو كره لكم»، وننتبه قليلًا هنا «فقد اختلفوا حول» المكلف بالقتال «وكذلك» المقصود بالمقاتلة، «فمنهم من يرى أن المكلفين بالقتال هم صحابة رسول الله دون غيرهم، والمقصود بالمقاتلة هم المشركون حينئذ، وقد تم حصر المكلف (بالقتال) والمقصود (بالمقاتلة) فى زمن محدد وهو زمن التنزيل وصدور الحكم لا يتعداه لغيرهما، وهو أمر خاص وليس عامًا لعموم المسلمين.
وأما غيرهم من الفقهاء ودهاة السياسة وأصحاب المصالح والغايات والهوى ومنافع الدنيا، فإنهم مؤيدون لفكرة أن المكلف بالقتال هم عموم المسلمين حتى قيام الساعة، وكذلك المقصود بالمقاتلة هم أهل الشرك والكفر حيثما وأينما وجدوا حتى قيام الساعة أيضا، حتى ولو لم يبدأوا المسلمين بقتال.. وهذا هو المأزق الذى وضعنا فيه أصحاب مطلق اللفظ «التأويل اللفظى» أن يظل المسلم فى حالة قتال مع أهل الشرك والكفر مادام وجد الشرك والكفر.
إلا إذا كان المسلم فى بلد هو فيه مستضعف، فعليه العمل بآيات الموادعة والمصالحة «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ».. حتى إذا اشتد عوده وقويت شوكته، فعليه العمل بآيات السيف والقتال، وهذا هو الأصل فى التعامل مع أهل الشرك والكفر.. ولو كان «التأويل» خاصا بفترة التنزيل، لكنّا فى نعمة السلامة مع الجميع، وفزنا وفازوا، ونجونا ونجوا.
وللحديث بقية..
«الدولة المدنية هى الحل»