بقلم - عادل نعمان
لا أتصور أن التاريخ سيشهد بأن طوفان الأقصى انتصار لحماس مهما جلجلت وهتفت ودقت طبولها بالنصر المبين، ولو شاطرتها فى هذا كل الفصائل والفرق الجهادية الإسلامية حتى إيران وأقسموا جميعا جهد أيمانهم، مادام الشعب الفلسطينى المغلوب على أمره يقتل ويباد ويقتلع من جذوره، ويتكبد عناء التهجير، ويحمل متاعه القليل وأطفاله وشيوخه إلى هجرة لم يكونوا بالغيها إلا بشق الأنفس ولربما ماتوا جميعا قبل بلوغها، أو إلى خيام مهترئة على حدود مغلقة لا يملك أصحابها من الأمر شيئا، يتضورون جوعا، ويقاسون برودة الشتاء دون ستر، ويحرمون قطرة ماء نقية يروون بها ظمأهم، ويوارون جثامين أطفالهم الثرى دون جريرة ولا ذنب، حتى عز عليهم البكاء وجفت دموعهم وتشققت وتحشرجت صراخاتهم فلا تقوى على الأنين، وضن عليهم ضمير العالم فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وناموا وسط أكفانهم وأشلائهم ورعدات الخوف فى عيون أطفالهم، ورجفات الرعب على وجوه أمهاتهم، ومصير الثوانى المقبلة الدامية لا يفارقهم لحظة واحدة.
والنصر المبين لحماس ربما يقبله الغرباء أو المطففون الذين يكيلون فيخسرون، إذا ما غابت خسائر الشعب الفلسطينى ومعاناته وقتلاه وضحاياه وأشلاؤه من المعادلة، حتى لتصبح المعادلة محصورة ومحدودة بين خسائر الكتائب الجهادية المقاومة للاحتلال، وما يتكبده المحتل الإسرائيلى فقط، يصبح النصر فى صالح المقاومة مهما كالوا على الناس وخسروا، حتى لو كانت أضعاف خسائر المحتل، فنكيل معهم ونقسم على النصر المبين، إلا أن المعادلة والكيل لا يقبل المساومة أيتها المقاومة، فلا نصر مقابل تشريد شعب وتيتم أطفاله وتجويعهم وتهجيرهم واقتلاعهم من ديارهم، ونزع أبسط حقوقهم الإنسانية فى المأكل والمشرب والنوم تحت غطاء وتحت سقف يقيهم برودة هذا الجو القارس، فلا نصر إذا هزم الشعب، ولا فتح إذا هجروا واقتلعوا من ديارهم، ولا فوز إذا شردوا بلا مأوى، ولا مقاومة إذا خلت الأرض من عمارها.
والحروب الحديثة غالبا ما تتبادل القوى المتحاربة كل الفرص، كلهم منتصرون ومنهزمون، إذا علت قدم طرف على آخر، تخلفت يده عند الأخرى، وإذا ارتقى فارس جوادا هنا نهض فى الصفوف فارسان هناك، كلها تؤخذ فى الحسبان عند التهدئة والتفاوض، والجهات والجبهات غالبا ما تتقابل وتتعادل وكأن النصر والهزيمة خارج المعادلة، كل طرف له معادلاته وحساباته الخاصة، حتى لتسمع عند الطرفين آيات النصر فى وقت واحد، وتوزيع الأوسمة والنياشين والقلادات على الشاشات، ومنح صكوك الشهادة والجنة والحور العين على موتى الجميع، وربك أعلم بمن فاز ومن خسر، هذه حروب الجيوش، أما عن الشعوب فالهزيمة مكشوفة إذا تركوا الديار، وملعونة إذا جاعوا وماتوا ودفنوا بالعشرات فى مقابر جماعية مجهولى الهوية، ومقروءة فى صفوف الجوعى، ومسموعة فى أنين الأمهات، وحاضرة على جثث القتلى فى الطرقات والمشافى وأسلاك الحدود والساحات، وصامتة على ألسنة شعب يتوق إلى ما كان قائما قبل الحرب، راضون العودة قبل الجهاد والنضال، يتوقون الإياب إلى بيوتهم يضمون جدرانها فى أحضانهم خلف الأسوار.
وأكاد أرى شبحا يتقدم فى عتمة الليل يتخفى وربما تظهر معالمه قريبا، فليس القضاء على حماس وكتائبها القتالية يستحق كل هذا الدمار، وما كانت عودة فتح لإدارة القطاع تتطلب هذا التهجير القسرى وهذه الأرض المحروقة والإزالة الممنهجة وطمس معالم غزة ومسحها، هذه الإزاحة وهذا الإقصاء مع الإبادة والشطب أكبر بكثير من القضاء على حماس وعودة فتح، وقد فتحت حماس بابا لإسرائيل ما كانت يوما تحلم به، بل وعجلوا لها القرار، وبات الحلم واقعا فرضته الأحداث من وسع، وأصبحت الأرض الغزاوية تحت هيمنتهم وسيطرتهم فارغة بلا شعب، خالية من الإنس والجن، شاغرة حتى من جدران البيوت وصور المدينة وأشجار الزيتون، ولا أتصور أن تفلت هذه الفرصة من أنياب إسرائيل، أو يصيبها الخبل وتسمح بعودة الغزاوية إلى ديارهم، فلم تسمح بحق العودة أو بقرارات وقف بناء المستوطنات، أو عودة الأرض المحتلة قبل أو بعد 67، فكيف تقبل عودة غزة وهى خاوية على عروشها؟، ستغلق إسرائيل الباب تماما بالضبة والمفتاح على دولة إسرائيل نفسها، وتتمدد فى القطاع ما أمكن لها هذا، وتقيم المستوطنات الحربية عازلة على ما تبقى لأهل غزة من القطاع، أما عن أحوال الغزاوية وتكدسهم فى رفح فهو آخر اهتمام إسرائيل وللأسف حماس، وعلى المدى الطويل يمكن تقليص أعدادهم بالهجرة والنزوح والتضييق عليهم فيتركون لهم الجمل بما حمل فى عام أو عشرة أو أكثر، قلنا ومازلنا نقول إن الحمساوية يكيلون كيل المطففين. «الدولة المدنية هى الحل».