بقلم - عادل نعمان
والقيم الإنسانية والأخلاقية متجددة ومنتخبة ومنتقاة وتخضع لمقتضيات الاستحداث ومعايير الإنشاء وقواعد الاكتشاف كلما كانت الحاجة ليست راسخة وليست جامدة، موافق عليها بالرضا والقبول. وما يرى الناس منها فضيلة فى زمنٍ يراها غيرهم خطيئة فى آخر، وما كان مجال فخر وتباهٍ قديمًا فإن الناس تتوارى من فعله خجلا الآن وتستره عن العيون.. فقد كان الغزو يوما ماله أشرف الأموال، والزراعة والرعى أقل الأعمال شأنًا ومقامًا، وكان خطف الرقيق ونقلهم وبيعهم لبلدان كثيرة أمرا مقبولا وعملا تجاريا وتنمويا معتبرا، وكان السباق بين الأديان لاستقطاب مؤمنين جدد أمرا متوافقا عليه ومباراة تحت الأضواء الكاشفة، إلا أن الغزو الآن جريمة واجتراء على القانون الدولى والحدود الدولية، والزراعة عماد التنمية، والرِّق عمل إجرامى وتجارة فى البشر محرمة وممنوعة، وهذه المبارزة بين الأديان أضحت توجيهًا وتزيينًا وإغراءً يجعل الاختيار ملفقًا ومدلسًا.. هكذا ترتقى القيم وترتفع يومًا بعد يوم إلى الأعلى والأسمى.
والقيم الإنسانية والأخلاقية تسير مسار الحاجة والمنفعة، والشعوب بطبيعتها قد اتخذت منهج السلم واحترام القوانين الوضعية المتفق عليها سبيلا للحياة والرقى، وهى فى حالة بحث دائم عن مجموعة القيم المشتركة التى من شأنها ترسيخ هذا المنهج لخدمة البشرية وتعظيمها، ومن ثم فالانتخاب مستمر، والغربلة قائمة، والحذف والنسخ والإضافة متواصلة حتى تصطفى من العلاقات والأخلاقيات ما هو أفضل لعلاقات إنسانية مشتركة ورشيدة تسمح بالتبادل المعرفى والعلمى، وتنمى قيم التعاون الاقتصادى والاجتماعى والأمنى لرفاهية الشعوب ومواجهة التحديات والكوارث وقلة الموارد والغذاء وانتشار الأوبئة والحروب والجرائم والمصائب، هكذا لزم أن يكون مسار الكون والناس واختيارات الشعوب.
ويسرى هذا الأمر على العقوبات البدنية، وقد جرى تخفيفها تدريجيا حتى اختفت، سواء ما كان منها عقوبات مجتمعية أو دينية، مثلًا: عقوبة المرأة الزانية القتل غرقًا فى نهرى دجلة والفرات فى شريعة حامورابى، وعند الهندوس إلقاء الزانية للكلاب والضباع الجائعة، وفى اليهودية الرجم بالحجارة، وفى الإسلام الجلد مائة جلدة، وعند الفراعنة قطع العضو الذكرى للمغتصب.. وقد كانت العقوبات البدنية تعكس ثقافة الشعوب وقسوة الطبيعة ورقتها ونعيم الحياة وشظف العيش والقائمين على التشريع. وأقرت أكثرها الأديان على أنه سلوك اجتماعى وليس تشريعا أبديا، فقد كان قطع يد السارق وحد الحرابة معمولا بهما قبل الإسلام، وأبقى الإسلام عليهما عقوبتين مختارتين ومنتخبتين وأقرهما المجتمع، وقد راعى الرسول نفسه، صلى الله عليه وسلم، هذا التحديث والتخفيف حين قال: «تعافوا الحدود بينكم.. فما بلغنى منها نفذته» وفى آخر: «اِدرأوا الحدود بالشبهات».. أليس هذا محاذاة للنص وتخفيف العقوبة والإفلات منها؟.
ولم تكن الإغارة على الغير وسلب أموالهم وسبى نسائهم وأطفالهم وبيعهم فى سوق النخاسة واستخدام بعضهم- قلَّ أو كثُر- فى أعمال الزراعة والرعى والبغاء إلا لضرورة اقتصادية فرضتها الحاجة على بعض المناطق دون غيرها.. وحتى الضريبة المفروضة على الرؤوس كانت تفرضها إمبراطوريات الاحتلال على الشعوب المحتلة، ولم تكن الجِزية عملا إسلاميا صافيا، بل نقله المسلمون نقلا من هذه الإمبراطوريات إلى البلاد الموطوءة، وتم تأصيله شرعا.. كل هذا وغيره كان مقبولا ومفروضا فيما سبق، إلا أنه أصبح مرفوضا ومستهجنا ومخالفا للقانون الآن، وأصبحت الحروب عند الضرورة تفرض مساراتها قوانين دولية للحفاظ على البنية الأساسية، وكذلك الأسرى والعُزّل من المقاتلين والشعوب.
ولا نشك فى أن القيم الأخلاقية المجتمعية، وكذلك الدينية، وأيضا أحكامه، كلها ظواهر اجتماعية، أحداث معينة بذاتها، ووقائع تعامل معها الدين فعدّل فيها وصحح بعضها وأبقى على كثير.. وقد كان القبول والرضا أحد عوامل النجاح والتصويب.. وربما لو كان الدين نفس الدين قد ظهر فى زمن وأحداث اجتماعية وبلدان مختلفة لكان له شأن آخر، وما كان ما سمعناه وقرأناه.
إن التطور الاجتماعى يفرض على كافة المرافقين له التكيف والمواءمة والموافقة على المستجدات التاريخية، سواء كان المرافق له قيم مجتمعية أو دينية «معاملات أو أحكام أو عقوبات»، لتسير وتنسجم مع قيم الحداثة، فإذا ما رفض رجال الدين أو غيرهم هذا الانسجام والاتفاق، بحجة حماية الدين والمجتمع، فإن النتيجة الحتمية هى جمود الدين والمجتمع وإعاقة حركة التاريخ والالتفاف على أحكامه ونواهيه ومعارضة معاملاته والإبقاء على طقوسه وشعائره فقط لزمن ليس ببعيد.
لا يصح أن تقف العقول أمام أمواج الحداثة فى تحدٍ أو مبارزة، بل الحكمة تقتضى السير فى ركابها وبرفقتها، نتفاعل معها ونحاورها، وربما نرفض بعضها ونتحاشاه إذا تعارض هذا مع إرادة المجتمع.
«الدولة المدنية هى الحل