وكما كان التأويل إحدى أدوات المذاهب والفرق لتأييد أفكارهم، وسبيل أصحاب المصالح والمنافع لدعم أرباحهم، ومنهج المتآمرين لإضعاف الأمة وهزيمتها، ولا أتصور أن فى هذا قدرا ولو قليلا من حسن النوايا، حتى لو ارتدى صاحب التأويل لباس الورع والتقوى، وقد كان عليه ببساطة أن يعيد فهم النص، بما يرفع هذا الضرر وهذا الأذى ويكف أيدى المتآمرين، إلا أنه يصر غاية الإصرار على خطئه ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
فإنه على الوجه الآخر للتأويل قد كان المَخرج والمنفذ للمسلمين للدخول فى عالم اليوم، وإن كانوا جلوسا على مقاعد المتفرجين، إلا أننا نحمد الله أننا لسنا ببعيد عنه كل البعد الذى يحرمنا متعة الرؤية والمشاهدة. الغريب والمريب أن السلاح ذاته المستخدم فى نشر الدعوة هو المستخدم فى تجهيل الأمة واختراق صفوفها من الأعداء والمتآمرين، والسيطرة عليها اقتصاديًا وعسكريًا واجتماعيًا.
ولابد أن نعترف ونعيد الفضل لأهله، إلى الذين اجتهدوا من أصحاب التأويل العقلى فى بحثهم الجاد للنص على مفهوم علمى متجدد وجاد ومحايد، إلا أن هذه المحاولات التى بدأت منذ قرون من المعتزلة، وقبلها حتى تاريخنا، قد كلفتهم عناء يصعب احتماله، وطاقة اخترقت قوس الصبر عند الكثير منهم، ومطاردات استفحلت وتوحشت حتى طالت الأبناء والزوجات دون وجه حق.
فهذه القوى الخفية التى تحارب حتى تظل لها السيطرة والنفوذ مازالت هى الأقوى والأشرس حتى فى التدليس على أصحاب النجاح المحدود حين زعموا أنهم تراجعوا عن موقفهم وتابوا وأنابوا عن ضلالاتهم.. وهذا لم يحدث على الإطلاق، فقد ظل موقفهم صائبا دون تردد، وحادا دون تراجع، هذا عن طه حسين ومحمد عبده وعلى عبدالرازق وأبوزيد.. وغيرهم، وهذا ما زعموه أيضا عن المعتزلة جميعًا.
إن عدم ربط النص القرآنى بالسياق التاريخى وزمنه وظروفه وأحداثه، وهو ما يعرف بـ«خصوص السبب» أو «سبب النزول»، والفصل بين الحكم الخاص والعام، وكيف يتم الجمع بينهما دون تعد لأحدهما على الآخر- يعزل النص القرآنى عن عالمه الذى نحياه، ويعيشان معًا غريبين فى بيت واحد، وعلى سبيل المثال هذا الفارق بين الأحكام الأزلية الأبدية وبين الأحكام التى تمثل صورة لواقع عند زمن معين.
مثلا «قوامة الرجل على المرأة» فى الآية «الرجال قوّامون على النساء»، لا يمكن أن يكون هذا الحكم أبديا فى ظل التغيرات الاجتماعية وتعليم المرأة وتحررها وتفوقها وإبداعاتها، مما يجعل القوامة المطلقة لأيهما أمرا غير جائز وغير مقبول، وكذلك مزاحمة العم أو ابن العم لبنات الأخ المتوفى فى الميراث لعدم وجود ذكر، وهو أمر مطلوب أن يعاد النظر فيه وفقًا للنص القرآنى وفهمه بصورة عصرية.
كما فهمه واستوعبه المذهب الجعفرى، وكما ذكرنا، حتى لا ينعزل النص عن الواقع العملى، بل يلجأ الناس إلى التحايل على الأحكام، كما يتهرب الأب من كتابة ميراثه للبنات على عين حياته حتى لا يشاركهن العم الميراث.
لا شك أن الأوائل قد اجتهدوا قدر علمهم وظروف حياتهم الاجتماعية ووقائع وأحداث زمانهم، والظواهر الطبيعية والإنسانية، وقدر ما أتيح لهم من فهمها وإدراك خباياها وما تحمله من أسرار ظاهرة وباطنة، فكان لهم الفضل والسبق فى عصرهم، وارتاح الناس إلى تفسيراتهم وتأويلاتهم، وهدأت نفوسهم حين كانت للغيبيات هذه المساحة الشاسعة من الصباح حتى النوم، وهو أمر مفروغ منه ومقبول.
إلا أنه ليس من المنطقى أو المعقول أن تتجاوز هذه المساحة الشاسعة حياتنا الآن فى ظل التضييق على الغيبيات وكشف أسرار ما كان غائبا عن الناس بفضل العلم والعلوم التى اخترقت الزمان والمكان، وظللت الحقيقة الكثير من أسرار الكون، وهو أمر لا يدعونا للنيل من الأوائل أو إهدار حقهم فى التقدير والعرفان، بل جهد محمود ومشكور، فلربما نصبح فى يومٍ ما قادمٍ الأوائل، وتتغير فيه الأمور وتستقر على شاطئ جديد، كنا نحسبه نهاية العالم والعلم.
إن المهام والمسؤوليات والأهداف قد تبدلت وتغيرت، وما كان يحمله الإنسان بمفرده ويقدر عليه، أصبح يشاركه غيره الأحمال، وربما لا يطيقان.. وما كان خليفة يبايع على المنشط والمكره دون مساءلة أو حساب، أصبح رئيسا يخضع للقانون والمساءلة والحساب من الشعب.
وما كان يومًا متاحًا ومباحًا للغير يغير فيها طرف على الآخر أو يفتحها ويستولى عليها بالقوة أصبحت تحكمها قوانين دولية وحدود مرسومة ومحددة لا يجوز تخطيها والاعتداء عليها.. ومن كانت عبدة وأمة وأسيرة وسبيّة للمتعة فقط أصبحت سيدة ووزيرة.. ومن كان ذميًا أصبح مواطنا.. ومن كان مجبرا ومقهورا على الإيمان أصبح حرًّا فى اختياره.
وهكذا فلا يصح أن تظل التأويلات حبيسة أدراج التاريخ دون تجديد وإصلاح وتحديث.
«الدولة المدنية هى الحل»