بقلم - عادل نعمان
وتيار الإسلام السياسى السلفى حدد تاريخ البشرية بين قوسين، أوله عند الأوائل، وآخره عند سلف القرون الوسطى. وأرسى مراكب الحضارة والإنسانية عند شاطئيهما، وجمّد كل المياه التى تجرى حوله، فلا إجابة تخرج عن زمن الأوائل، ولا هدى أو رشاد ولا إيمان أو عقيدة أو شريعة إلا وكانت من نسخ فقهائه وتدوين سلفه الصالح.
ويبدو أنه خارج الزمان أو يسير عكسه، حتى لتظن أن هؤلاء القوم قد جاءونا من حيث لا ندرى، أو هبطوا من كوكب آخر، يقولون كما قال السلف، ويحكمون كما حكموا، شكلًا وسمتًا وسحنةً، ولسان حالهم يقول إن السلف قد لانت الدنيا لهم من أولها لآخرها، ورفعوا غطاءها، وأفشوا أسرارها، وجهروا بالمستور عنها، بل كشفوا أولها وآخرها، فكانت لوحة أو حدثا واحدا تحت أبصارهم حتى نهايته، وكله معلوم عندهم ومقروء ومعروف، فيستجاب من الأمس ما هو تحت أعيننا اليوم، ويرفعون أمر الناس غدا بما رفعه الأوائل منذ قرون.
وأنا أتردد فى الظن بحسن نوايا هذا التيار وفصائله، وأرى لهذه العملة وجهين: وجهًا مع الله، وآخر مع الخوارج «كل الخوارج».. حتى وإن كانت تصرف عند بدال واحد. وأكاد أجزم أن النتائج والآثار والأضرار دمارها واحد، أكان السبيل إليها حسن النوايا أو سيئاتها، ولربما كان حسن النوايا أكثرهما ضررا وفسادا.
وليس من خطر على الإسلام أكبر من الذين يحتكرون الحديث باسمه، حق مطلق ليس لغيرهم، فإذا كان القرآن من عند الله، إلا أن التأويل والتفسير والشرح من عندياتهم.. وهؤلاء قد احتفظوا بهذا عن خلق الله، وأطلقوا أيديهم فيه دون اعتبار لاحتمال الخطأ كما الصواب الذى يزعمونه، فما تصاعدت الحركات الإرهابية، وما تقاتلت المذاهب والملل الإسلامية، وما تنازعت فصائل الأمة، وما تشاجر البيت الواحد، وما تمزقت الأمة وما تناحرت فيما بينها وما تشقق بنيانها، إلا بهذا التأويل وهذا التفسير للنص خارج سياقه التاريخى وبعيدا عن مقاصد الخير، والدين لا يحمل إلا الخير والتسامح والعفو عند المقدرة، والمجادلة بالحسنى مع المخالف، مسلما كان أو غير مسلم، فحمّلوه بما لا يحمل، وأولوه غير مقصده، واستخدموه لأغراض سياسية، وفسروه وفق مصالح حكامهم ومراميهم وأطماعهم.
والتأويل جاء فى القرآن بمعنى «تفسير الأحلام» عن سيدنا يوسف «وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ» وكذلك التأويل بمعنى «الإنباء والإخبار عن حدث معين قبل وقوعه»، كما جاء عن يوسف «قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا»، أى أخبرتكما عنه، طعمه ولونه، وهل طعام مسموم أو غير مسموم «وقد كان الملك يرسل طعاما مسموما لمن يريد قتله»، وكذلك التأويل عن «كشف ما خفى من خير عن أفعال قد تبدو سيئة للناظرين، أو كشف المستور، أو باطن الفعل» كما جاء فى حديث الرجل الصالح لسيدنا موسى حين خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، فجاء التأويل «قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا. أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا. وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا. فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا. وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا».
نستطيع القول إن التأويل هو العودة إلى حقيقة الشىء وكشف أسراره ومقاصده وغاياته، إلا أن كل محاولات كشف الأسرار والمقاصد والغايات مع تغير وتبدل الأحداث والمواقف، أفسحت الطريق لمن يخطئ ويصيب ويحسن ويسىء.. منهم من كان مخلصا، ومنهم من كان فى قلبه مرض.
ولعل الحقيقة الكبرى أن التأويل على هذا النحو كما كان مخرجا مهما من بعض التناقضات والخلافات الظاهرية بين الدين والحياة والعلم والظواهر الإنسانية والطبيعية، ورفع الحرج عنه، والمصالحة بينهما، إلا أنه فى نفس الوقت قد أخرج على السطح هذا الخلاف المثير بين الطوائف والمذاهب والفرق والجماعات الإسلامية بعضهم بعضا إلى حد التكفير والاقتتال والمواجهات الدامية بينهم، حتى مات منهم بسيوف أهل الإيمان أكثر من مات منهم بسيوف أهل الشرك، ودفع أيضا أهل المذاهب والفرق إلى التأويل وفق هواهم لخدمة مذاهبهم، ودفع الطماعين والغزاة إلى تأويله لاستحلال فروج النساء وأموال الرجال.. كيف؟ إلى لقاءٍ.
«الدولة المدنية هى الحل