بقلم - عادل نعمان
ومن الفروق الأساسية بين العبادات والأحكام والمعاملات فارق جوهرى راح إليه جمهور من الأئمة والفقهاء، وهو أن العبادات «توقيفية» بمعنى أن المسلم يتوقف عندها منفذا وملبيا دون بحث عن علة أو سبب، ولا يتوقف عندها متسائلا أو مستفهما، بل يؤديها فى أوقاتها المقررة دون مجادلة أو محاورة، فلا ينازع أمرا مختلفا يراه صوابا عما يرى عليه الناس فى أدائها، ولا يلف أو يدور مثلا حول شعائر وطقوس الحج، لماذا نطوف حول الكعبة سبعة أشواط وليس عشرة مثلا؟ ولماذا نسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط ولهما تاريخ غريب؟ ولماذا نصلى صلاة المغرب ثلاثا وليس كالعشاء أربع ركعات مثلا؟ وعلى المسلم التسليم والأداء بما جاء وورثه بالتواتر «جيلا بعد جيل حتى صاحب الرسالة المحمدية».
أما عن الأحكام والمعاملات فهى أحكام «عقلية» لها أسباب تحكمها، فلا تنفذ إلا لعلة أو لسبب، وطالما كانت العلة قائمة فإن الحكم يكون قائما أيضا، كما قالوا: «الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما» ولأن الأحكام جميعها كانت رهن أحداث معينة ووقائع بذاتها وعرضت على النبى ونزل فيها حكم من الله، فإن التنفيذ والتطبيق مرهون بتكرار السبب والحدث والواقعة على نحو مماثل وعلى ذات المصلحة والمنفعة، فما جاءنا وورد إلينا من أحكام أو معاملات كان على باعث وذريعة وسبب، وما غاب وأفل كان لغير علة الوجود والسبب وحائل حال دون وجوده، وإن الوقائع والأحداث والظروف المستجدة والمستحدثة بعد رفع الوحى، ولم تصادف حياة الناس فى العهد النبوى، ولم يكن لها نصيب فى العرض عليه، ولم تقابل أو تلاقى الرسول فى حياته أو تصدى لها، كان من اللازم أن تخضع لتشريع الناس وحكمهم، وكذلك يفعلون.
وليس هناك سبب يدفعنا أن نتعامل مع المعاملات والأحكام معاملة العبادات بأن تكون توقيفية أيضا، فيتم تنفيذها دون نقاش أو حوار، وإلا وجب علينا أن نثبت ونجذر الأحداث والوقائع والأحوال دون حركة إلى الأمام، ونربط ونقيد المشهد أمام أعين الناس ساكنة حتى الممات، أو قل تقف الدنيا كلها عند البعثة وتنتهى عند البعثة أيضا، وعلينا أن نعيد الماضى بكل أحكامه، كالرق وملك اليمين والتسرى بالإماء والجوارى وغزو دول الجوار دون احترام للقوانين الدولية، وندور ونلف جميعا فى دهاليز القرون الوسطى، إلا أن الزمن لن يقف وحركة الحياة مستمرة، والوقائع والأحداث متجددة وتتوالد وتتكاثر وتستنسخ من بعضها البعض ويتوه آخرها عن أولها حتى لو كانت نسيج وحدة واحدة، وطالما قد منعنا مانع وحجبنا حجاب عن تنفيذ هذه الأحكام وهذه المعاملات بقوة القانون والحاجة والمصلحة على ذاك النحو، فإن الالتزام بالقوانين المستحدثة أولى بالاعتبار والالتزام عن الشرع وتسرى على الجميع، فليس الإنسان يحيا بنصف معاملات وأحكام عن الله، والآخر من عندياته، وما عز على الله أن يستكمل النصفين معا من عنده.
وما جد فى مسائل الأحوال الشخصية كمثال يؤكد صدق ما نقوله، فقد خرج الطلاق من يد الزوج إلى يد القاضى ويد الزوجة نفسها «العصمة وهى حق الزوجة فى تطليق نفسها» فى حالات كثيرة، وقد استحدث الناس شروطا وقواعد يتم الطلاق حال حدوثها كالضرر والضرب والأذى وعدم الإنفاق والزواج من أخرى، ونظم الناس شروطا مكتوبة ومعتمدة على الزوج لحدوث الطلاق دون الرجوع إلى الزوج كالزواج من أخرى أو تغيير مسكن الزوجية أو العجز عن النفقة أو إجبارها على ترك الدراسة أو العمل أو السفر خارج البلاد، وضيقت سلطة الرجل فى الطلاق عكس ما كان مباحا وجائزا له، وقد منعت دول كثيرة وجرمت تعدد الزوجات وفرضت عقوبة على الزوج مع وجوب الطلاق، وأيضا ألزمت دول كثيرة الرجل بإتمام الطلاق أمام القاضى ولا يعتد بالطلاق الشفهى، وقد كان حقا مطلقا للرجل، ومازلنا نبحث فى بلادنا عن إثبات الطلاق أمام المأذون بشهود وعدم اعتماد الطلاق الشفهى وهو منطق له من يؤيده من الفقهاء والمذاهب، عموما فإن الحاجة والمصلحة فرضت نفسها أمس واليوم وتفرض نفسها غدا.
ونذهب إلى المعاملات، فقد وردت الآية «وأحل الله البيع وحرم الربا» والآية «يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه»، والبناءات الاقتصادية المعقدة والمتجددة، بأصولها وفروعها، تحتاج إلى تفاصيل كثيرة وعلمية متدفقة ومتغيرة، وإن كنا نعتبر ما سبق قواعد عامة ونصائح أو حكما وإرشادا، كأن ينصحك الأب حين تذهب لتوقيع عقد شقة بالقراءة المتأنية قبل التوقيع، بناء الدول واقتصادياتها ومعاملاتها من تجارة بينية وجلب استثمارات والتوسع فى الإنتاج وإقامة صناعات عملاقة وتشغيل ملايين الأيدى العاملة والبيع والشراء والتقسيط والائتمان والاقتراض وكافة المعاملات المعقدة تحتاج إلى تدخل بشرى كل دقيقة للدراسة والتجديد والتحديث، يزيد كثيرا عن هذا الإرشاد إضافة إلى ملاحقة هذا التطور المذهل والحركة الدائمة بتشريعات وقوانين تلاحق وتواكب هذا التطور وإلا تخلفت الأمة وتقهقرت وزالت. وللحديث بقية. «الدولة المدنية هى الحل».