بقلم - عادل نعمان
والعميد هو عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، ومنهج البحث العلمى كما جاء فى كتابه فى الشعر الجاهلى «أن يتجرد الباحث من كل شىء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالى الذهن مما قيل خلوًّا تامًّا، والناس جميعًا يعلمون أن هذا هو المنهج الذى سخط عليه أنصار القديم فى الدين والفلسفة يوم ظهر»، ويستكمل العميد «وعلى الباحث أن ينسى عواطفه الدينية والقومية، وأن ينسى ما يضاد هذه العواطف القومية والدينية أيضًا، ويجب ألا يتقيد بشىء ولا يذعن لشىء إلا منهج البحث العلمى الصحيح، ذلك أننا إذا لم ننس هذه العواطف وما يتصل بها فسنضطر إلى المحاباة وإرضاء العواطف، وسنغل عقولنا بما يلائمها، وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل أفسد علم القدماء شىء غير هذا؟ كان القدماء عربًا يتعصبون للعرب، أو كانوا عجمًا يتعصبون على العرب، فلم يبرأ علمهم من الفساد، وكان القدماء مسلمين مخلصين فى حب الإسلام، فأخضعوا كل شىء لهذا الإسلام وحبهم إياه، ولم يعرضوا لمبحث علمى ولا لفصل من فصول الأدب أو لون من ألوان الفن إلا من حيث إنه يؤيد الإسلام ويعززه ويعلى كلمته، فما لاءم هذا مذهبهم أخذوه، وما نافره انصرفوا عنه انصرافًا» انتهى.. يا سيدى العميد طه حسين «وكذلك يفعلون اليوم وغدًا».
وأكاد أجزم أن منهج البحث العلمى هو النجاة من كل مخلفات الماضى، والتخلى عن هذه العصبية القومية والدينية والأهواء السياسية أثناء البحث فإن النتائج تكون أقرب إلى الحقيقة وأجدى وأنفع للمجتمع بديلًا عن هذه الأجواء التى نحياها، وقد كانت وما زالت تحمل جزءًا من الحقيقة وأخريات من الخيال، تضر ولا تنفع، وتبعد ولا تقرب، وتميل ولا تعتدل أبدًا.
وربما يرى البعض أن مجال البحث العلمى له أبوابه وغرفه المغلقة بعيدًا عن كل العامة والكثير من الخاصة، حتى لا تتشتت أفكارهم وتضطرب معتقداتهم وتزيد حيرتهم، وأعتقد أن هذا ليس من الصواب فى أمرنا هذا، لكنه صواب فى المعامل البحثية وميادين البحث التجريبى، فى الطب والهندسة والزراعة وغيرها من هذه العلوم، فليست معروضة على العامة أو حتى الخاصة، ولربما يناقش البعض منا النتائج دون مناقشة الوسائل والسبل، ونقبلها أو نقبل بدائلها إن كان لها بديل آخر، أو نرضخ للنتيجة المتاحة فى حينه، إلا أن الأديان والفلسفة منذ القدم معروضة أبحاثها وخلافاتها ومجادلاتها ومساجلاتها على الملأ، وقد كانت المساجد منارات العلم والبحث والمناظرات، مفتوحة أبوابها لكل من أراد تلقى العلم أو حضور حلبة المناقشات والمجادلات، وإن كان لمشايخنا الآن رأى مخالف للاستئثار بالعلم وقصره عليهم فإنه أمر ليس من الدين، ولأهواء شخصية، فهو حق متاح للجميع، وإياك أن تستبعد العامة من حلبة النقاش فلن يقبلوا النتائج كما يقبلون الدواء، ولن يرفضوا زواج صغيرتهم أو طفلتهم حتى لو أصدرنا لهم مائة قانون وألف عقوبة نجرم فيها هذا، وسيستمرون فى تزويجهم إياها لإيمانهم المطلق بشرعية الزواج، رغم أنف القانون، إلا إذا شاركوا وناقشوا البحث بنفسه منذ بداياته واقتنعوا، والحال الآن شاهد على ما أقوله.
ولست من الذين يضعون قيودًا على البحث، أو الذين يجدون حرجًا فى سؤال، أى سؤال، وهو أمر مفروغ منه الآن، الجميع يتساءلون دون قيود أو محاذير، والتواصل العالمى والثقافى قد عجل بهذا المنهج ووضعه فعلًا موضع التنفيذ، ولا مهرب منه ولا قدرة لأحد أن يبحث للناس عن منطق سواه أو إجابة بعيدة عنه، وليس هذا المنهج العلمى فى البحث ملزمًا فقط للذين يدرسون العلم، بل هو ملزم للجميع العامة والخاصة، الفقير قبل الغنى، والواجب أن نستقبل هذا بمنطق القبول دون نفور أو اتهام أو حجب أو منع أو اتهام أو تحقير.
وكما بدأنا بالعميد ننتهى عنده «وكان القدماء يكذبون كما يكذب المحدثون، وكان القدماء يخطئون كما يخطئ المحدثون، وكان حظ القدماء من الخطأ أعظم من حظ المحدثين؛ لأن العقل لم يبلغ من الرقى فى تلك العصور ما بلغ فى هذا العصر، ولم يستكشف من مناهج البحث العلمى والنقد ما استكشف فى هذا العصر، فإذا أخذنا أنفسنا بأن نقف أمام القدماء موقف الشك والاحتياط فلسنا غلاة ولا مسرفين، وإنما نحن نؤدى لعقولنا حقها، ونؤدى للعلم ما له علينا من دين» انتهى العميد.. ونقول إن هذا المحتوى مقصود به كل من يرفض استخدام المنهج العلمى فى كل مناحى الحياة دينية أو دنيوية، أو يخشى غضبًا أو نفورًا أو تجاهلًا أو إقصاء، فلا سبيل ولا طريق سواه فى الدين والدنيا، وهو أيضًا منهج قرآنى «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ».. الجميع مخاطبون بهذه الآية القدامى والمحدثين، وكل من كان صاحب قرار أو حتى الرقباء، اليوم وغدًا. الدولة المدنية هى الحل