بقلم - عادل نعمان
لو كانت المصائب انتقاماً إلهياً ما كان نصيبنا منها الوفير والكثير، ولو كانت الكوارث على قدر الآثام والفسوق لكان حظنا منها القليل والضئيل، ولو كانت المحن والبلايا والفواجع عقوبة العصاة والمذنبين والمنكرين ما أصابنا منها سهم واحد، لكنا ما فتحنا باباً إلا وجدناها كلها مجتمعة وحاضرة. ولو كانت الأرزاق توزَّع بالقرب والتقوى فنحن الأدنى والأقرب والأتقى، ولو كانت نعم الله تقسم على قدر إيمان العباد، لكنا أحق العباد بإحسانه وكرمه وعطاياه. فلا تشمتوا فيما أصاب الناس من النوازل والملمات، فقد كانت بالأمس القريب فى ديارنا، وفى بيوت الله، وما زالت تحت أقدامنا وعلى أبوابنا، ولم يشمت فينا أحد. فهذا المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ما نجا من حريق فى ستينات القرن الماضى، ألم يكن من باب أولى أن تكون النار برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم؟ وهذه الرافعة التى سقطت فى بيت الله الحرام من عواصف ورياح وأمطار غزيرة هائجة على المصلين، ومات العشرات من الساجدين والراكعين وعُمّار البيت، أليس بيت الله أولى أن تمسك الملائكة الرياح والعواصف وتبسطها وتمددها وتهدئها وتبعدها عن البيت وعُمّاره، وينجو الزوار فى بيت الله إكراماً لزواره. وهذه الملايين من الحجيج الذين تدافعوا فى رمى الجمرات، يؤدون شعيرة من شعائر الله فى «منى» ومات منهم الآلاف، ألم يكونوا هم الأولى بالرعاية والحفظ والصون من مرتادى البارات والخمارات، ويعودون إلى ديارهم، وقد جاءوا شعثاً غبراً شاكرين عابدين حامدين ساجدين. وهذه القطارات التى أُحرقت، والمساجد التى نُسفت، والمراكب التى أُغرقت، والبيوت التى دُمرت، ورائحة الموت التى تزكم الأنوف فى بلادنا ولا نشم سواها، وصراخ الموتى الذى يصم الآذان ولا نسمع غيره، وحمرة الدم التى رافقت سواد العزاء ولا نرتدى غيره، هل تراها انتقاماً إلهياً؟ أم تراها امتحاناً إلهياً إذا أصابتنا وبلغتنا، وانتقاماً إلهياً إذا أدركت ولحقت غيرنا؟! وقد كانت وما زالت ظواهر طبيعية تخضع لقانون الطبيعة ليس أكثر، تسير مساراً محفوظاً محسوباً ثابتاً، فتصيب ما كان فى طريقها بيتاً أو مسجداً أو صومعة، حاجاً أو معتمراً أو مصلياً، وتفلت الخمارات والبارات والمواخير والسكارى إن لم تدركها خيوطها وحساباتها.
ظواهر الكون أيها الشامتون لها أسبابها الطبيعية، فلا تسيّرها الملائكة إذا جاءت لنا بالخير، ولا يُتهم فيها الجن والشياطين إذا أتت بالشر. الظواهر الطبيعية معصوبة العينين، لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم ولا تشم، لا تتبع فى طريقها رائحة المؤمنين والتقاة فتحيد عنهم، ولا تتحسس وتتلمس الآثمين والعصاة فتضيّق الطريق عليهم فتصيبهم. ليست انتقاماً من الله يا سادة، فمصائبنا وكوارثنا أكثر مئات المرات من مصائب وكوارث الكرة الأرضية كلها مجتمعة «واللى ما يشترى يتفرج»، فليس حريق كاتدرائية نوتردام بفرنسا عقاباً من الله، وليس تحطم مركبة الفضاء الإسرائيلية قبل هبوطها على سطح القمر غضباً إلهياً، فستُجدد الكاتدرائية، وسيتكاتف العالم المتحضر ويساهم فى عودتها أعظم مما كانت، هؤلاء قوم يحافظون على تراثهم وتاريخهم، ونحن نهدمه ونحرقه ولا نقيمه (مليار يورو حجم التبرعات لإعادة ترميم الكاتدرائية فى غضون ثمانٍ وأربعين ساعة)، وستهبط عشرات المركبات الإسرائيلية على سطح القمر فى القريب العاجل، وستظل فرنسا واحة الجمال والفن والحضارة، وسنبقى فى وحل التخلف والفوضى، وستبقى إسرائيل واحة وقبلة العلم والتطور، وسنبقى نحن أسرى بول الإبل والحجامة والرقية الشرعية.
ماذا دهانا؟ وماذا أصابنا؟ ومن هذا الذى عكّر مياهنا العذبة الصافية؟ ومن هذا الذى أفسد حياتنا المطمئنة الوديعة المسالمة؟ من هؤلاء الذين علمونا التشفى والغل والشماتة؟ من هؤلاء الذين ملأوا صدورنا كرهاً وحقداً وضيّقوها علينا فلم نعد نفرح إلا فى مصائب الناس؟ ولا يشغلنا نجاحنا وفلاحنا بل تشغلنا كوارث الآخرين؟ لقد كانت بلادنا يوماً أم الدنيا، مهد الأديان السمحة والحضارة الإنسانية، نصدّر الخير والمحبة والنماء إلى العالم أجمع، يأتينا الناس من كل فج، يعيشون بيننا ويحتمون بحمانا، ويتمددون فى مودتنا، حتى جاءنا هذا الغزو الوهابى، وأسرنا فى سجون الجهل والتخلف، وحبسنا خلف أسوار الغل والكره والحقد والعداوة والبغضاء والشماتة فى خلق الله.
أيها الشامتون الحاقدون، أنتم قلة فى مسيرة المحبة والسلام، أنتم جميعكم إلى الانقراض والزوال، الحب يبنى والكره يهدم، وهى عقيدة الله، قسّمها ووزعها على خلقه، وحرمكم منها، فليس العز فى ذل الآخر، وليس النجاح فى فشله، وليست السعادة فى المصائب التى تحيط به، بل الخير فى مشاركة الناس أفراحهم وأحزانهم ومصائبهم، يوم لك ويوم عليك، هذه هى الحياة.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع