بقلم - عادل نعمان
ولا أنسى حديثا دار بينى وبين أحد العاملين فى مطعم أحد الفنادق بمدينة شرم الشيخ حين بدأ يتمتم بينه وبين نفسه وهو يهم بتجهيز وترتيب مطعم الفندق: «ربنا يتوب علينا من الشغلانة دى».. وكان يقصد أن يسمعنى حواره هذا، ولم يكن تبرمه هذا راجعا إلى رداءة العمل الذى يقوم به، فكما عرفت أنه يدر عليه دخلا مرضيا وكافيا له ولأسرته على بساطة تعليمه ومؤهله، إلا أن سبب هذا الانزعاج والغم كما عرفت أن العمل فى السياحة حرام كما يزعم ويعتقد، والدخل منها سُحت بواح، مثله كمثل المال المسروق أو الرشوة أو الاختلاس أو المال النجس، وكلها قليلة البركة، واستعان بحديث آحاد «كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به». ولما سألته: ولماذا تقبل هذا الحرام؟، رد بثبات أن الميتة حرام، إلا أنها مباحة عند الضرورة القصوى، نلوكها ونلتقمها على مضض دون صبر أو استمتاع، وهكذا نتعامل مع السياحة قاطبة، لا نستطعمها ولا نستحسنها. ولما حاولت أن أهون عليه الأمر، وأرفع عن كاهله عبء الحرام هذا، وأحبب له هذا العمل الحلال، فإنه استشهد وكله ثقة بأقوال مشايخه محمد حسان ويعقوب وغيرهما، وحين سألته عن ثروتهم، انصرف عنى ولم ينتظر!.
هذا هو الهوى السلفى الذى يسيطر على عقول البعض من المصريين وأصبح حائلا دون النهوض والارتقاء، خصوصا فى مجال السياحة، حتى وإن كان عملا خدميا، فكلها منظومة متكاملة ومتراصة، تتساند وترتكز بعضها على بعض، تنجح أو تفشل دفعة واحدة.
وقد أشار أحد القراء الأفاضل (مصرى مقيم فى أمريكا) فى رسالته معقبا على مقالى الأسبوع الماضى عن «سياحة حسينية منقوصة»، قال بقليل من التصرف: «عقلية الشريحة العريضة سلفية الفكر والهوى فى الشارع المصرى لا تدرك قيمة تاريخها، لا يحكمها سوى الحرام والحلال، والكافر والمؤمن، والمخالف والمؤيد، ومن ثم فهى لا تدرك قيمة السياحة مصدرا مهما وحيويا للدخل القومى وللعاملين فى هذا المجال والصناعات القائمة على السياحة». ويضيف: «إن المصرى الآن ليس هو المصرى فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى وما قبلهما.. المتسامح الودود والمثقف الحالم الذى تذوق الفنون وروائع الشعر والمسرح والفنون جميعها والرياضة، جيل طه حسين وشوقى ولطفى ومحفوظ وعبدالوهاب وهيكل والسنباطى وفرقة رضا، سلسلة عمرها الآف السنين، أعمدتها المحبة والسلام والجمال». انتهى.
ولأنه يا سيدى قد وصل أو أوصلوه إلى هذا القاع، فقد أصبح لقمة سائغة فى أفواه السلفية، يبثون أفكارهم ويستحوذون على عقله وجسده ويخططون ويرسمون حياتهم كيف يأكل ويشرب وينام ويمشى ويتكاثر ويختار مستقبله وشريكة حياته، إلا أن أولاد هؤلاء المتسلفين قد تعافوا من هذا الداء، وتطهروا من هذا الخبث، ونجوا جميعهم من هذا الوباء، وتعلموا فى أرقى المدارس والجامعات خارج البلاد، واختاروا مستقبلهم بأنفسهم، وعاشوا فى رغد من العيش، وعهدوا لهؤلاء بالجهل والخرافة وضياع فرص التقدم والحضارة.
هو وغيره كُثر، مازالوا رهن الفكر السلفى الذى يحرّم السياحة تحريما قاطعا، ويحرّم على المسلمين السفر للسياحة لما فيهما من بدع وفساد وإفساد، وقد رأى بعضهم وضع حجاب من البلاستيك على التماثيل «المساخيط»، ومنهم من رأى هدمها، حتى إن الفقهاء قد أسقطوا إقامة حد السرقة عن سارق الآثار، وذلك «لتفاهة المسروق» ولو قدروه بالملايين، وهى مجمل فتاوى بن باز وابن عثيمين والحوينى وحسان وغيرهم كثير، بل ما أفتى به الشيخ الشعراوى كان واضحا «إغلاقها»، يقصد المزارات السياحية، وأكد على من خاف على نفسه الفقر والحاجة فليرجع إلى (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله)، وجاءنا فضيلته بالحل الإلهى وقال «إن الله قادر أن يفجر لنا بئرا من البترول عوضا لنا عن إغلاق السياحة كما عوض الله أهل مكة».
وأهل مكة يا شيخنا على ما عندهم من آبار ومناجم والتى أفاء الله بها عليهم، فتحوا البلاد شرقها وغربها للسياحة والغناء والسينما والمسرح الآن، فهل يغلق الله عليهم هذه الآبار عقابا على هذا وردا للفضل؟!.
وأخيرًا لنا عند المسؤولين طلب، أرجو الاستجابة إليه، وهو حسن اختيار العاملين فى مجال السياحة، فالأفضل والأسلم أن تعهد الدولة إلى شركات متخصصة لإدارة المزارات والمنشآت السياحية بأسلوب علمى يعتمد على حسن الاختيار والأداء، وتفهم كامل للمهمة وخدمة السائح.
«الدولة المدنية هى الحل».