بقلم - عادل نعمان
كنا قد تواعدنا على استكمال أهم الفروق بين العبادات والأحكام والمعاملات فى المقال السابق، وأهم فارق أن العبادات «توقيفية»، أى ينفذها المسلم ولا يقف عندها مشاكسا أو متسائلا أو يردها إلى الإعجاز العلمى، بل هى واجبة النفاذ وهو «مغمض العينين»، دون رد أو بحث عن علة أو سبب، أما الأحكام والمعاملات فهى «عقلية» تدور مع العلة وجودًا وعدمًا، ومع الزمن منفعة وضررًا.. وضربنا بعض الأمثلة عن خروج هذه الأحكام وهذه المعاملات من حيز التنفيذ والخدمة إلى حيز «الذاكرة التاريخية».
ولا يمل القارئ العزيز من التكرار والإعادة، فلا لوم على المدرس المجتهد إن أعاد الدرس مرة وراء الأخرى، إذا ما ظهر فى صفوف طلابه ناجح جديد منقول، أو متعثر يعيد السنة، فيسمعه للمرة الأولى للمنقول، ويكرره على مسامع المتعثر عَلّه يفهم ويستوعب، هكذا نحن، فلن نمل التكرار والإعادة طالما وجدنا واحدا منهما داخل الفصل.
وكما أوضحنا، فإن الكثير من حقوق الزوج فى الطلاق قد تقلصت حين شاركه القاضى والزوجة والقانون فى حق التطليق وأصبح لا يحتكم إلا على الربع فقط، وكذلك الحدود الأربعة الواضحة والصريحة كما نزلت من عند الله (وليس غيرها) أصبحت فى حكم المنسوخة والمنحولة مع بقاء تلاوتها فقط، والحدود أربعة لا غير: حد السرقة، وحد قذف المحصنات «بالزنى فقط»، وحد الزنى، وحد الحرابة «قطع الطريق خارج المدن». وكما كانت يومًا واجبة التنفيذ على أن يشهدها طائفة من المسلمين، فإن الفقهاء ضيقوا عليها لدرجة التعجيز حين يحاولون إثبات الواقعة من الناحية الشرعية لتنفيذ الحد، فأغلقت الأبواب، وما دخلها كان آمنا من العقوبة، وأصبح مرتكب الجرم فى مأمن، حيث سقط الإثبات الشرعى.. ولو أخذنا مثال السرقة، فإن إثبات الواقعة شرعا فى حكم المستحيل، حتى لو كانت الواقعة بالصوت والصورة وأنكرها صاحبنا، والشروط هى: الضرورة، والنصاب، والإجبار، والحرز، وشبهة الملكية فى المال العام، ودرجة القرابة، وتفاهة المسروق، والبلوغ، والتخفى، والعلم بالتحريم، ويكفى سقوط شرط واحد منها فقط للإفلات من العقوبة.. ولما كانت الاستحالة واقعة وحلت محلها سلطة ولى الأمر فى «التعذير» فإن الحكم كأن لم يكن.
والتعذير عقوبة مشروعة بغرض التأديب لجريمة ليس لها حد «من غير الأربعة حدود فقط»؛ وهى من سلطة ولى الأمر، يحدد فيها الجريمة وما يستحدث منها وعقوبتها وما يطرأ عليها، وكذلك- وهذا هو الأهم- أن تشمل العقوبة التعزيرية من ارتكب جريمة لها حد منصوص عليها فى القرآن ولم تتوافر لها الشروط الشرعية لإثبات وقوعها.. وهنا «مربط الفرس» فهل هذا التقييد من الفقهاء تعدٍّ على حق الله، أو أن الفقهاء وجدوا صعوبة فى تنفيذ الحد أو قسوة فى الحد ذاته، أو شبهة فى صالح المذنب.. وقد سبقهم فى الأخيرة الرسول حين قال: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»، وأيا كان السبب فإن التشريع الإنسانى قد شمل كل القوانين سواء الجريمة المستحدثة أو جرائم الحدود، وحسم الأمر وحل محل التشريع فى كل النواحى، فلن تقف الجريمة عند الجرائم أو المعاصى الأربع فقط، ولن نستطيع أن «نركّب» كل جريمة جديدة على معصية من المعاصى الأربع «القياس» كما فعلها على بن أبى طالب حين سألوه عن عقوبة تعزيرية لشارب الخمر ولم يكن لها حد فى القرآن، فأفتى «وركّب» عقوبة شارب الخمر على عقوبة رمى المحصنات، فإذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى رمى المحصنات بما ليس فيهن، فتكون عقوبته عقوبة رمى المحصنات ثمانين جلدة «وهو اجتهاد فى حينه».
ولدينا مثال آخر عن زواج المتعة، وهو تشريع إلهى «فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة»، وقد ثبت هذا النوع من الزواج أو العلاقة فى حياة النبى، وهو زواج لأجل ولا ميراث فيه للزوجة حتى انتهاء الأجل يقع الطلاق، ويرى أهل السنة والجماعة ومذهبان عند الشيعة «الإباضية» و«الزيدية» أن هذا الزواج حرام حرّمه رسول الله. وترى الشيعة الإمامية أنه حلال، سواء كان الذى حرمه عمر بن الخطاب أو حتى الرسول بنفسه، لأن ما أحله الله يحرمه الله أيضا، ولا ينسخ القرآن إلا القرآن. وعلى أى الأحوال، فإن نسخ وإلغاء هذا الحكم كان بشريا وبفعل فاعل واختلفت حوله المذاهب وتبدل الحكم، وكل منهما لمصلحة من وجهة نظره، حتى ظهرت عند أهل السنة والجماعة حديثا محاولات للفكاك من هذا الضيق، سواء بفتاوى خاصة أو عامة كزواج المسيار وزواج النية.. والأخير ببساطة؛ أن المسلم إذا تزوج وفى نيته أن يكون زواجا لمدة محددة دون علم الزوجة فهو حلال، ولا أدرى ما الفرق بين هذا وذاك!.
للحديث بقية..
«الدولة المدنية هى الحل»