بقلم: عادل نعمان
لا طعم لحلاوة النصر دون تجرُّع مرارة الهزيمة والانكسار، ولا يعرف معنى العزة إلا من ذاق مُر المهانة والصغار، ولا يعرف متعة الصحة إلا من واجه محنة المرض والاعتلال، ولم تكن نكسة 67 هزيمة عسكرية فقط، بل انكسار جيل، ومهانة أمة، وضياع أمل، وحيرة طريق، وهروب عيون الرجال من أسئلة الصغار. هزيمة 67 ليل حالك، وظلمة مفزعة، يفزع بعضنا بعضاً حين اللقاء أو الحوار أو التحية أو السلام، الأنفاس خانقة متلاحقة مرعبة، تكاد أيادينا من فرط الضيق أن تجهز عليها بإرادتها. أذكر وقتها كنت صغيراً فى امتحان الشهادة الإعدادية مادة الجغرافيا، لم أجد تفسيراً لهرولة الناس فى شوارع قريتنا، يبكون، ويصرخون، ويتوجعون. بعدها بسنوات، أدركت أن المحروق يعدو ويهرول بلا هدف من شدة الألم، ربما يبحث عن ماء يطفئ به ناره، أو يستنجد برفيق يرفع عنه البلاء، الكل يا صاحبى محروق، لا نقطة ماء تطفئ بها حريق قدميك، أو صديق يرفع البلايا عن ساعديك، كلنا فى الهم سواء، تغدو حتى تحترق وتموت، ولا يموتون. فى السنة النهائية فى الجامعة هدأت النار، وبدأ الثأر، وعبر إخوتنا القناة، ورأينا أسطورة الجيش الإسرائيلى تحت أقدام عبدالعاطى والـ«آربى جى»، وفى سماء الدلتا.
فى مدينتى، الكردى دقهلية، يوم السادس من أكتوبر 73، كنا نلتقط البيانات العسكرية ونسجلها، بياناً تلو بيان، على سبورة خشبية بالطباشير الملون، على الطريق الزراعى، وكانت هذه مهمة صديقى «الحسين راغب» أحسننا خطاً وسرداً، وتتولى لجنة الإعلام بالنادى إذاعة البيانات العسكرية على الناس تتخللها الأغانى الوطنية من ميكروفون معلق على سطح أحد المنازل، وكأننا فى ثكنة عسكرية، نشرح لهم نجاح قواتنا فى عبور القناة، وانتصارات الجنود، ونجاح القوات فى اختراق سد بارليف بخراطيم المياه المتدافعة، وتحطيم أكبر ساتر ومانع مائى فى تاريخ الحروب، وتقدم قواتنا المقاتلة على المحاور الرئيسية شرق القناة، وحصر أعداد طائرات العدو المتساقطة والمتهاوية فى سمائنا. السماء فوق رؤوسنا فى الدلتا لم يتوقف فيها أزيز الطائرات المقاتلة، ولم ينقطع دوى اختراق حاجز الصوت فى آذاننا، نصحو على معركة ونغلق عيوننا مع آخر ضوء من النهار، نعد ونرصد طائراتنا فى ذهابها إلى شرق القناة، ونترقب عودتها إلى حظائرها بعد نصف ساعة أو أكثر، نتأكد من عودتهم سالمين، ونترحم على من تخلف منهم، وكم كانت فرحتنا عارمة إذا عاد أحدهم يلحق بهم بعد دقائق معدودة، حمد الله على السلامة اتأخرت ليه؟ ونعد ونرصد طائرات العدو وهى ذاهبة إلى حضن الدلتا وكذلك وهى عائدة، كم كنا نسعد بعدم عودتها إلى حظائرها، اللهم لا تُعدها إلى ديارها مرة ثانية، كان هذا دعاؤنا، الطائرات فى رحلة الذهاب والعودة كانت تطير على ارتفاع منخفض، خوفاً من رصدها من الرادار، وصيدها بصواريخ «سام 6» التى تلاحقها فى السماء، فكنا نستطيع أن نحدد نوعها وبسهولة، هذه «فانتوم» من طائرات العدو، وهذه «ميج» و«سوخوى» من طائراتنا.
اليوم الرابع عشر من أكتوبر، فى الثالثة والنصف عصراً، كنا على موعد مع بطولات رجالنا فى سماء الدلتا، شاشة كبيرة بطولها وعرضها، حرب طائرات تتهاوى وتتساقط أمام أعيننا، واحدة تركب الأخرى، تفلت من تحت جناحيها، تطيران جنباً إلى جنب، تصعدان إلى السماء متجاورتين، وتهبطان إلى الأرض سريعاً فى سباق جنونى، يلتفت كل واحد منهما إلى الآخر، ينتهز فرصة الضرب، يصوب صاروخه فى اتجاه الآخر، الثانية لها حساب، عيون لا تغفل ولا تسهو لحظة، العمر لحظة كما يقولون، نصفق من فوق بيوتنا وفى مزارعنا، «الفانتوم» يتهاوى ويتساقط.
مائة واثنتان من طائرات «الفانتوم» للعدو الإسرائيلى تواجهها وتعترضها اثنتان وستون طائرة «ميج 21»، أكبر معركة طيران فى تاريخ الحروب، معركة المنصورة، المعركة استمرت اثنتين وخمسين دقيقة كاملة، كانت عيوننا تتجاوز وتتسابق مع حاجز الصوت، تسبق الطائرات إلى حيث تكون، فقد اعتدنا على متابعة الطائرات، قلوبنا تدلنا على طائراتنا، طائرات «الفانتوم» يقودها اثنان من الطيارين، ومتفوقة على «الميج».. يا رب خليك معاهم. مطار شاوة العسكرى على طريق المنصورة الزقازيق كان نقطة البداية والنهاية، وكانت الطائرات الإسرائيلية تتساقط فى الغيطان أمام أعيننا، وكنا نجرى بين الزراعات نتابع تساقطها ونبحث عن الطيارين أحياء. فى مدينتى سقطت طائرتان، كنا ندوس على نجمة إسرائيل وندعو الأهل والأحباب إلى بركة هذا اللقاء، المعركة يحسمها مقاتلونا، وتعود الطائرات الفانتوم إلى حظائرها ناقصة أربعين طائرة افترشت أرض الدلتا ووطئها الناس فى فرحة غامرة.
روح أكتوبرية كانت تسود مصر، المستشفيات تعج بالمتبرعين بالدم والمتطوعين للتمريض، وحراسة الشوارع والبيوت، ولم تسجل أقسام الشرطة لمدة ستة أيام حادثة واحدة أو سرقة أو حتى خناقة، ليتها تعود بعد أن اكتظت الأقسام بمحاضر السرقة والتعدى والسب، روح أكتوبر قد اختفت وظهرت روح إبليس، اللهم اصرفه عنا.
تعود الأرض، ويعود أبطالنا، ولا يعود الشهداء، عند ربهم يُرزقون، سلام على مصر فى كل وقت وفى كل سماء وكل أرض، وعاشت مصر حرة عالية.. يا رب.