بقلم - يوسف القعيد
عقدت الجمعية المصرية للدراسات التاريخية الأسبوع الماضى، برئاسة الدكتور أيمن فؤاد السيد، مؤتمرها السنوى. كان من المفترض أن يفتتحه المهندس عاطف عبد الحميد، محافظ القاهرة. لكنه اعتذر. موضوع المؤتمر: المياه والمجتمعات عبر العصور. واللجنة العلمية التى أعدت أعمال المؤتمر من الدكاترة: أحمد زكريا الشلق، جمال معوض شقرة، خلف عبد العظيم الميرى. ومنسق المؤتمر طاهر حسين.أنت فرصة لزيارة الجمعية التاريخية التى أصبحت جزءاً من تاريخ مصر. تأسست فى 20 يوليو 1945 بمرسوم ملكى بإنشاء الجمعية الملكية للدراسات التاريخية بفضل مساعى الدكتور حسن حسنى باشا، السكرتير الخاص للملك فاروق. وتحددت أغراضها بالنهوض بالدراسات التاريخية ونشر الوعى التاريخى بين أبناء الوطن.
أول مقر للجمعية كان مكتب محمد شفيق غربال، بوزارة المعارف العمومية. ثم خصصت لها غرفتان بجمعية الاقتصاد السياسى والإحصاء والتشريع. انتقلت الجمعية لأكثر من مكان حسب تقلبات العصور والأحوال. إلى أن استقرت فى البناية 2 شارع ناصر الدين المتفرع من شارع البستان، المواجهة للنادى الدبلوماسى، والقريب من ميدان التحرير بقلب القاهرة.لكن بسبب تعقيدات إدارية فى علاقة الجمعية بمالك العقار. حصل على حكم محكمة بإخلاء المبنى. وفى هذه اللحظة تولى الدكتور محمد صابر عرب، المؤرخ قبل أن يكون وزيراً للثقافة، والمؤرخ الكبير بعد تركه الوزارة. تسهيل حصول الجمعية من حاكم الشارقة الدكتور سلطان بن محمد القاسمى. وهو مؤرخ معروف وله كتابات مهمة فى تاريخ الخليج العربى والقرصنة وما جرى هناك عبر الأزمنة والعصور. الدكتور القاسمى أهدى الجمعية مقرها الحالى فى مدينة نصر. بموجب عقد هبة ومبناها. وافتتحه فى 23 مايو 2011، بل ومنح الجمعية مبلغاً من المال يمكن أن تنفق على المبنى والأنشطة التى تقام فيه من عائد المبلغ المودع كوديعة بأحد البنوك. ومن يرى المبنى عند مروره فى الشارع الرئيسى القريب منه. سيكتشف تحفة معمارية نادرة الطراز. فيها تجليات العمارة الإسلامية والعربية. وكأن الهدف لم يكن إنشاء جمعية تاريخية. بقدر ما كان إشاعة حالة من الاهتمام بالعمارة التى نهملها مع أننا نعيش فى ظلالها.
لا أستطيع الكتابة عن الندوة العلمية التى ذهبت لمتابعتها فى يومها الثالث والأخير دون المرور على مشكلة المكان. فعندما أنشئت الجمعية فى المنطقة الواقعة خلف مدرسة المنهل، والقريبة من امتداد شارع حسن المأمون. لم يكن فى المكان ما يمكن أن يضايق المؤرخين المصريين ولا أن يهددهم ويمكن أن يحول دون تمكنهم من القيام بالمهام التى يريدون القيام بها تطوعاً وتبرعاً دون انتظار أى عائد. بدأت المشكلات عندما نشأت أمام الجمعية سويقة سُميت: سويقة الحى الثامن. وإذا كنا نقول عن بعض الأحياء إنها عشوائية. فالسويقة - تصغير سوق - منطقة تتجلى فيها العشوائية بأكثر صورها قُبحاً. مما يتناقض تماماً مع مجمع المدارس وجمعية المؤرخين.
عندما وصلت للمكان وكان الوقت ظهراً. كان التجار يحاصرون الجمعية من جهاتها الثلاث ببضائعهم التى يبيعونها. بل ويربطون دوابهم فى السور الذى يحيط بالجمعية. وقد أقيم السور بعد محاولة من التجار للعدوان على الجمعية وتدمير بعض المنشآت بها احتجاجاً على وجودها.
انقلب الحال. ففى الوقت الذى كان يجب توفير مناخ مناسب لجمعية معنية بدراسة تاريخ مصر والوطن العربى والأمة الإسلامية والعالم. أى جمعية فيها صفوة من يشتغلون بالتاريخ. وأعتقد أن أى أمة بلا تاريخ أو تهمل تاريخها. ليس من حقها أن يكون لها حاضر. كما أنها تُحرم من الحلم بالمستقبل.المؤرخون لا يطلبون قطع الأرزاق. ولا منع التجار من القيام بأعمالهم. فهم يعولون عائلات كثيرة. لكن الحل الذى يمكن الاهتداء إليه توفير أماكن بديلة للتجار ليقوموا بعملهم. ويعرضوا ما لديهم. وأيضاً يتمكن السكان من شراء مستلزماتهم من مكان قريب. فالانتقال من شارع لشارع فى قاهرة اليوم أصبح من الصعوبات الكبرى.
لا أدرى عدد المحافظين الذين ناشدناهم. لتوفير سوق بديل للتجار الذين يحاصرون الجمعية. وكانت هناك استجابات كلامية ووعود شفوية دون أن يتمخض الأمر عن أى شىء. وربما كان إصرار الجمعية على أن يعقد المؤتمر الأخير للجمعية تحت رعاية محافظ القاهرة المهندس عاطف عبد الحميد. حتى يرى بنفسه الوضع المذرى الذى تمارس الجمعية عملها فيه. والمأزق الذى يواجه من يذهب إلى الجمعية. وأكوام فضلات السوق اليومى تحاصر الجمعية من كل مكان. لكن المفاجأة أن المحافظ اعتذر عن الحضور. لست أدرى لماذا لم تفكر الجمعية فى مخاطبة جهاز التنسيق الحضارى، ومديره المهندس محمد أبو سعده، ووزير الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم. كاستغاثة أخيرة لإنقاذ هذا العدوان اليومى والمتواصل والمستمر على مبنى مهمته الحفاظ على تاريخ حضارتنا وتجلياتها ومنجزاتها. موضوعات المؤتمر الذى ذهبت لحضوره كثيرة. لكنى توقفت أمام ملخص بحث عنوانه: مشروع بناء السد العالى وصِلتِه بسد النهضة فى ضوء التطورات الأخيرة. قدمه الدكتور زكى البحيرى، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية التربية جامعة المنصورة. يتحدث الباحث عن سد النهضة والخطر الذى يشكله على تدفقات مياه النيل الواردة إلى السودان ومصر.
لكن الجديد تأكيد أن المشكلة لم تبدأ الآن. لكنها بدأت عندما تقرر إنشاء السد. تم البدء فى ذلك ومصر فى زحمة الثورة المصرية فى أبريل 2011، مر الأمر علينا فى مصر دون التوقف أمامه طويلاً. رغم أن النيل يمثل المصدر الرئيسى لاستخدامات المياه فى بلد كبير وضخم ومحورى يزيد عدد سكانه على المائة مليون نسمة.
يؤكد الباحث أن بناء السد يرتبط ارتباطاً مباشراً بالمخططات الأمريكية الغربية التى جرت عقب إقدام مصر على بناء السد العالى بمساعدة وتمويل الاتحاد السوفيتى، بعد رفض الولايات المتحدة وبريطانيا تمويل المشروع العملاق. الذى قالت عنه الدراسات إنه أعظم مشروع مائى فى القرن العشرين. المؤامرة قديمة. مركز استصلاح الأراضى الأمريكى أرسل بعثة إلى إثيوبيا 1958-1964، أجرت دراسات على 33 مشروعاً مزمع إقامتها على النيل الأزرق تشكل مياهه 60% من مياه النهر. والباحث يستند إلى الوثائق البريطانية. فهل إقامة سد النهضة رد الغرب الأمريكى على السد العالى؟!.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع