بقلم - محمد علي فرحات
المحتفلون بافتتاح السفارة الأميركية في القدس المحتلة افتقدوا وجود كاميرا ذات أشعة خاصة لتصوير الحضور. الكاميرات العادية صوّرت نتانياهو وزوجته وابنة الرئيس دونالد ترامب وصهره وحضوراً آخرين إسرائيليين وأميركيين، بينهم أصوليون مسيحانيون يؤمنون بأن الاحتفال خطوة على طريق نهاية قريبة للعالم، سيكون اليهود فيها أمام أحد خيارين: اعتناق المسيحية أو السقوط في جهنم. كان يمكن الكاميرا ذات الأشعة أن تلتقط في الاحتفال صورة زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي يتجول بين الحضور ويبدو الأكثر فرحاً، فاستدعاء الحروب الدينية يكرّسه ممثلاً للطرف الآخر في الصراع.
وإذا كان ترامب ونتانياهو ومؤيدوهما الذين يعيشون في الماضي استطاعوا إلغاء صورة أميركا الجامعة بين حرية الرواد وحداثة أوروبا، والحط من شأن العلماء والمثقفين اليهود، ومحو الضمير اليهودي الرافض تجديد المحرقة في شعب آخر. إذا كان الأمر لدى حكّام الولايات المتحدة وإسرائيل وصل إلى هذا الدرك، فمن حق البغدادي أن يأمر بتدمير ما أنجز العرب من استقلال وطني وتنمية اقتصادية واجتماعية وتطوير ثقافي يلتزم حواراً دائماً مع نخب العالم، ففي السفارة الأميركية حصل البغدادي على صك براءة وعلى تفويض بحرب دمار شامل على طريق نهاية العالم: ما هي القرابة حقاً بين «داعش» والأصوليين المسيحانيين واليمين الإسرائيلي المتطرف؟
القضيتان الفلسطينية والإسرائيلية لن تتأثرا جذرياً بكتابة اسم «سفارة» على مبنى القنصلية الأميركية في القدس المحتلة ولا برمزية الحدث. الفلسطينيون جيلاً بعد جيل متمسكون بحقوقهم، وأدناها دولة في الضفة والقطاع والقدس الشرقية، والإسرائيليون لا يستطيعون التهرُّب من ضرورة اعتراف بدولتهم، من الفلسطينيين أولاً ثم من العرب المحيطين. هذا الاعتراف وحده يعطيهم شرعية حضور في المنطقة، ولا يمكن استبداله بضغوط أميركية ولا بأحلاف مع دول غربية أو شرقية.
والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي يترك أثره في الطرفين، فحيثما يَرِد ذكر لإسرائيل لا بد من ذكر فلسطين، كل منهما يقدّم للآخر دعاية مجانية ودعوة إلى العالم لقراءة تاريخ الشعبين. قد تكون النصوص محوّرة بأقلام داعمي إسرائيل، أو عاطفية بأقلام مؤيدي الحق الفلسطيني. لكن القارئ الجدّي هو الذي يقارن النصوص ويبحث عن نصوص جديدة خارج التداول. لهذا كله تبدو إسرائيل، ومعها فلسطين بالتبعية، الأكثر حضوراً في اهتمامات عالمنا اليوم.
والآن، التظاهرة الكبرى شمال غزة حيث احتشد عشرات الآلاف في ما يشبه أسطورة نضالية جديدة. الصراخ والدخان والحجارة في جانب والرصاص الحي في الجانب الآخر، قتلى كثيرون وجرحى أكثر. يكتب الفلسطينيون اعتراضهم بالدم فلم يبق إلاّ الدم سلاحاً. هكذا قال المتظاهرون وفعلوا. ولكن، حقاً، هناك أشياء كثيرة غير الدم يمتلكها الفلسطينيون. إصرارهم السياسي والثقافي على حقهم في دولة، وانتشار نخبهم المثقفة في بلاد العرب وأنحاء العالم يتبادلون الوعي في المجتمعات التي يقيمون فيها ويسطرون رسالة المقاومة السلمية باقتدار، فليس الدم وحده ما يملكون.
عملية السلام توقّفت. هل كانت تتحرك حقاً؟ الفلسطينيون يطلبون مفاوضات بإشراف دولي بعدما خيّب أملهم انحياز واشنطن. ولكن، لا أحد يقدم على رعاية مفاوضات من دون موافقة الولايات المتحدة، لا أوروبا، ولا بالطبع روسيا والصين. والآن، لا انتفاضة بل تظاهرات اعتراض تنبّه العالم وتنشّط الشعور الوطني الفلسطيني. الباب مغلق، ولكن، لن تفتحه عمليات انتحارية فقد جرّبها الفلسطينيون وعرفوا نتائجها الوخيمة.
الباب مغلق. لا أحد يجترح مساراً جديداً. لقد تضرر الفلسطينيون من قرار ترامب نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة. لكن الإسرائيليين لم يستفيدوا من القرار. المرحلة تتطلب التأمل. وحده نتانياهو المتطرف يهلل ويفرح. ولكن إلى أين؟ إسرائيل لن تنجو بنفسها إلاّ باعتراف الفلسطينيين وسائر العرب بوجودها. الطريق إلى ذلك لم تمهّده الاحتفالات بالسفارة الجديدة.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع