بقلم - محمد علي فرحات
الانتخابات الرئاسية المصرية تستكمل بدءاً من الإثنين المقبل بعدما اقترع المصريون المقيمون خارج بلدهم في وقت سابق، وهي حلقة من انتخابات شرقية وغربية متتابعة تتميز بهاجس التمسك بالمصالح الوطنية والاستقرار السياسي لمواجهة ضغوط الحروب والحصار الاقتصادي والأطماع الإقليمية والدولية، في عالم يهتز بين القطب الواحد وتعدد الأقطاب الذي لم يستقر بعد.
ولا يمكن الحكم على الانتخابات المصرية استناداً إلى أدبيات قديمة تتمسك بحرفية الديموقراطية لتفرّغ أي حدث سياسي من مضمونه الأساس: حفظ مصالح الجماعة الوطنية وهيكلية الدولة. هذا المضمون تتقصد إهماله الحملة الشرسة على مصر التي يخوضها «الإخوان» من وراء الحدود في نزعة انتقام بدائي من الدولة الوطنية، بعدما انقلبوا على ثورة 25 يناير وصادروا حماستها الشعبية لمصلحة تنظيمهم الأقلوي المسلح بالمال الكثير وبالطاعة العمياء.
يتوقف الزمن السياسي الإخواني عند سنة وحيدة تولى فيها محمد مرسي رئاسة مصر وتميّزت بالتعثّر وسوء الفهم والعجز عن التفاهم مع مصر والعالم. وقد شهدنا في تلك السنة صوراً كاريكاتورية ومأسوية لانتقال سلطة القرار من قصر الاتحادية الرئاسي إلى مركز «الإخوان» في المقطم، وكيف أضاع الناس البوصلة، فلم يكن لدى الرئيس القول الفصل في أي شأن من الشؤون، في حين بدا المرشد ولي أمر للجماعة يفوّضها حكم الشعب في المستويات كلها، وبذلك شن «الإخوان» ومناصروهم هجوماً على المجتمع المصري، يعبثون بمقدّراته ويدفعونه بالتهديد إلى تغيير طريقة عيشه ومعاشه. وفي تلك السنة الغرائبية أحرقت بيوت ومنشآت عامة وكنائس، ووصل الأمر بإخواني من القيادات الوسطى إلى تهديد ممثلة مشهورة طالما أُعجب بها وحلم بوصالها، لأنها لم تمثُل لعرضه بزواج محدود المدة يسمّيه البعض زواج المتعة والبعض الآخر زواج المسيار، إلى ذلك من مسمّيات تغطي إهانة وتسليعاً للمرأة، فضلاً عن كونها رذيلة موصوفة ومتعمّدة.
كان لا بد لمصر أن تنتفض على هذا الوضع البدائي الغرائبي الذي ينهش في جسم حضارتها الحديثة، ويحط من شأن وطنية المصريين ليستبدلها بمفهوم الأمة العابر للأوطان والذي يبحث عن خليفة يسلّمه رقاب الناس كرهاً لا طوعاً. والواقع أن حسن البنّا أنشأ تنظيم «الإخوان» قبل عقود رداً على انخراط المصريين في الحداثة وتبنّيهم عناوينها السياسية القائمة على المواطَنَة والانفتاح على العالم، من دون إغفال مطلبي السيادة والاستقلال. وكانت مصر أواخر عشرينات القرن الماضي تنفتح على المتوسطية والعروبة، مغادرةً الانتماء العثماني الذي بقي حلم أقلية معزولة لم تنخرط في دولة محمد علي ولا في الأجواء الليبرالية السائدة لاحقاً.
أي نظرة عاقلة إلى الانتخابات الرئاسية لا بد أن تلحظ أولوية الأمن والاقتصاد على الشعارات المتداولة لدى «الإخوان» وبعض النخب، فمصر محاصرة بالإرهاب من جهة الغرب حيث الفوضى الليبية ومتعهّدوها، ومن غزة الأنفاق التي كانت إلى وقت قريب ممراً للسلع الغذائية والسلاح والإرهابيين، حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه في سيناء. ولا ننسى الجنوب حيث الحكم السوداني لا يستقر على حال تجاه مصر، ويميل غالباً إلى مواقف سلبية ملبياً نزعته الإخوانية الكامنة.
الأمن مطلوب لئلا تلقى مصر مصير العراق وسورية وليبيا، والاقتصاد مطلوب لأنه قاعدة اجتماعية للأمن. أما السياسة فهي في خدمة هذين الهدفين ليكتمل الاستقرار في كنف دولة قوية هي وحدها التي تحفظ الديموقراطية. فمع دولة ضعيفة تتحول الديموقراطية انفلاتاً وفوضى على ما نعهد في غير بلد في منطقتنا. وليست مصر أكثر تماسكاً من الصين وروسيا وحتى من الولايات المتحدة لتسمح بتراخي أمنها وللشعارات الجذّابة بأن تقوى على الدولة.
يبقى أن «الإخوان» الذين طالما استمدوا قوتهم من تردي الأمن والاقتصاد، يتزوّدون هذه الأيام بفائض قوة من الحكم الأردوغاني في تركيا يوقظ حنينهم إلى الخلافة العثمانية الغاربة، وقد نصبوا رجب طيب أردوغان مرشداً فوق المرشد وغضوا الطرف عن نزعته التركية الطورانية التي تتذرّع بالخلافة لتتسيّد على العرب والمصريين، ولن يتحقق لها ذلك لوعي هؤلاء ولضعف في تركيا لا يراه المبهورون أو المرتهنون. وليست مصر دولة صغيرة. إنها دولة كبيرة في المنطقة، يمكن أن تُدعى إلى الصداقة أو التحالف وليس أبداً إلى الالتحاق والإذعان.
المصريون ينتخبون و «الإخوان» يحلمون، والديموقراطية آتية لتتويج الأمن والاقتصاد لا لتقويضهما.
عن الحياه اللندنيه