بقلم: د. محمود خليل
أحدثت خطوة السلام مع إسرائيل صدعاً خطيراً على مستويات عدة، شعبية ورسمية وإقليمية. فقد حدث صدع فى الجدار الشعبى الأدهمى. فلأول مرة يختلف هذا البنيان المرصوص فى الموقف من إسرائيل بعد أن ظل متماسكاً على رأى واحد منذ ثلاثينات القرن العشرين يذهب إلى أن إسرائيل دولة زرعها الاستعمار فى المنطقة وأنها تسعى لالتهام الدول العربية وبناء دولة تمتد من النيل إلى الفرات. وعلى المستوى الرسمى حدث صدع أيضاً فى دوائر الحكم، فقد استقال إسماعيل فهمى وزير الخارجية من منصبه اعتراضاً على الزيارة، وتبعه السفير محمد رياض حين استقال من وزارة الدولة للشئون الخارجية، وحل بطرس بطرس غالى محله فى هذا الموقع ورافق «السادات» فى زيارة إسرائيل. ويسجل محمد إبراهيم كامل -وزير خارجية مصر بعد إسماعيل فهمى- فى مذكراته المعنونة بـ«السلام الضائع» -وكان حتى ذلك الحين سفيراً لمصر فى ألمانيا- أن المسئولين الألمان انزعجوا بشدة من هذه الاستقالات وعبروا عن تخوفهم من وجود انقسام فى الرأى العام بمصر بشأن زيارة الرئيس لإسرائيل.
على المستوى الإقليمى كان الموقف أشد التهاباً فقد اتهم العرب السادات بعقد صلح منفرد مع إسرائيل، رغم أن كل أطراف الصراع كانت تستعد للسفر إلى مؤتمر السلام فى جنيف الذى دعا إليه السادات نفسه بعد وقف إطلاق النار وانتهاء حرب أكتوبر 1973، اتهم العديد من الرؤساء والملوك العرب «السادات» باتخاذ هذه الخطوة دون مشورة أحد وأنه يريد عقد «سلام منفرد» مع إسرائيل وفرض أمر واقع عليهم. كان السادات يعتقد -كما يسجل محمد إبراهيم كامل- أن من الصعوبة بمكان أن يتفق العرب على رأى مشترك يذهبون به إلى مؤتمر السلام فى جنيف. وحقيقة الأمر أن رد فعل العرب على مبادرة السادات جاء عنيفاً من بعض الدول (جبهة الصمود والتصدى) ومسانداً من دول (السودان وسلطنة عمان) ومتميعاً من دول الخليج.
وبمرور الوقت ازدادت حدة موقف العرب ورد عليهم «السادات» بلسان أشد حدة. وليس هناك خلاف على أن المعارك اللسانية بين السادات وبعض الرؤساء العرب أوقعت «الأداهم» فى حيرة، وتعمقت هذه الحيرة عندما لجأ التيار المناوئ لمبادرة السلام فى الداخل إلى الحديث عن «السادات» الذى يريد إفراغ مصر من عمقها القومى والعروبى وأنه يعزل مصر عن مجالها الحيوى ومساحة تأثيرها، وبدأت الألسنة تلكلك فى تأثير الموقف العربى من «السادات» على المعونة التى تدفعها الدول العربية لمصر، الأمر الذى أقلق الأداهم الذين لا يقض مضجعهم شىء مثل «القوت»، وقد كان لديهم من المعاناة ما يكفى. وأمام هذا الهجوم لجأ «السادات» إلى حيلة من تلك الحيل التى تعجب «الأداهم»، فرفع شعار «مصر أولاً» وأن مصر فرعونية الأصل وأوروبية الهوى، وتناثرت الأفكار التى طرحها عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين فى كتابه الشهير: «مستقبل الثقافة فى مصر» هنا وهناك، وبدأ مفكرو وكتاب السبعينات فى تعميق الطرح الذى تبناه السادات، ولاقى بعض القبول الشعبى بسبب عدم تجذر «الفكرة العربية» فى مصر التى تنظر إلى نفسها كدولة ذات نسيج خاص، كما يذهب محمد حسنين هيكل فى كتابه «حديث المبادرة».