بقلم: د. محمود خليل
فى مذكراته التى كتبها بمنفاه بإيطاليا تبنَّى الملك فاروق رؤية تذهب إلى أن الجهاز السرى للإخوان هو المحرك الأول للثورة، الذى يدعم اللواء محمد نجيب، القائد المعلن للضباط الأحرار، وأن الجماعة تعمل كرأس حربة للروس فى مصر. الملك الأسبق كان محقاً فى الشق الأول من رؤيته، فقد كان الإخوان رقماً مهماً فى الحركة المباركة، وشاركوا الضباط الأحرار فى أحداث يوليو 1952. وقد دعت صحفهم بشكل سريع إلى التخلص من الملك والملكية، لا لشىء إلا لأنهم ظنوا أن تلك واحدة من الخطوات التى ستمهِّد لوصولهم إلى الحكم، أما مسألة أن الجماعة شكلت واجهة للروس فرأى عجيب، لأن علاقة الإخوان الأقوى كانت بالغرب، لكن ذِكْر الروس والسفارة الروسية فى مصر داخل مذكرات فاروق يثير الحيرة فى ظل تنامى علاقة سلطة يوليو بالسوفيت فيما بعد.
بغض النظر عن كلام الملك السابق ودور الإخوان فى الأحداث، فقد بوغتت الأدهمية بتحوُّل فى مجرى الحديث والأحداث ينقل الحركة المباركة من مربع الحركات الإصلاحية إلى مربع الثورة الكاملة. وثمة خلاف ما بين المؤرخين حول مَن كان له السبق فى إطلاق وصف «ثورة» عليها. البعض يقول إن الدكتور طه حسين هو الذى فعلها، والبعض الآخر يقول إن سيد قطب هو الذى بادر إلى إطلاق هذا الوصف عليها. أياً كان الأمر، فقد تسارعت الأحداث فى البلاد بمجرد قيام الحركة، ولم يحتَج الأمر سوى 72 ساعة ليدرك الأداهم أن حركة الضباط ليست مجرد حركة إصلاح من داخل النظام الملكى الذى يتربع «فاروق» على عرشه، بل رؤية تتبنى مجموعة من الخطوات لإعادة صياغة الواقع. فقد تم طرد الملك من مصر يوم 26 يوليو، ونقل الحكم إلى ولى عهده «أحمد فؤاد»، ولم يمكث على باشا ماهر على رأس الحكومة التى تشكلت عقب الحركة المباركة سوى بضعة أسابيع. وتطوع كبار القانونيين من «أداهم» العصر الملكى مثل عبدالرزاق السنهورى وسليمان حافظ فى تكييف القوانين تبعاً للمزاج الجديد، وطبقاً للهوى السياسى المعادى لحزب الوفد. وتوافد كبار الساسة والمثقفين والفنانين الذين عملوا مع الملك فاروق أو دافعوا عنه أو غنوا له ومجدوا حكمه، ليقدموا أوراق اعتمادهم لدى النظام الجديد.
العمر الطويل تصحبه المشكلات، وكلما امتد الزمن بشخص دبَّ فيه الوهن والخور بصورة تُبرز نقاط ضعفه. والمحروسة مصر دولة تضرب بجذورها لآلاف السنين فى أعماق التاريخ، والأداهم الذين شاخوا فوق ترابها يتعلمون درس التقلب مع تقلبات الحياة، فلكل زمن رجاله، ولكل عصر أذان، فمن استطاع أن يُغيِّر جِلده مع تقلبات الحياة والأزمان فعليه أن يفعل حتى يتمكن من مواصلة العيش. ربما كان ذلك هو السياق الذى نستطيع أن نقرأ فيه هرولة شيوخ السياسة والقانون والصحافة والفكر والفن والأدب إلى أعتاب مجلس قيادة الثورة، لتقديم التهانى وإعلان الولاء. التقلب مع الأيام وتغيير الجلد للمواءمة مع ما تسفر عنه عادةٌ توارثتها النخبة الأدهمية عبر العصور، رغم أن التجربة تقول إن كل حقبة مرت بها الأدهمية المصرية لها رجالها المختارون بعناية. وهيهات أن يتمكن الفانى المتعثر ابن الماضى من إيجاد موضع لقدمه فى عصر جديد.