بقلم: د. محمود خليل
عندما كان المصريون يحتفلون بليلة رأس سنة 1967 كان كل شىء هادئاً على الجبهة، ولا يوجد أى مؤشر على إمكانية أن يشهد العام الجديد حرباً مع العدو الإسرائيلى. أوائل شهر مايو تم تسريب تقرير من القيادة السوفيتية إلى مصر يقول بوجود حشود إسرائيلية على الحدود مع سوريا، هنالك صدرت الأوامر إلى أجهزة الإعلام بشن حملة من حملات الحرب الكلامية على إسرائيل، وتواصلت فعاليات الحملة حتى بعد أن تأكدت القيادة السياسية حينذاك من عدم دقة المعلومات السوفيتية. بدا الأمر وكأن مصر تريد أن تدخل معركة مع إسرائيل بأى صورة من الصور، واحتشدت شوارع القاهرة باللافتات التى تهدد بسحق إسرائيل وتتوعدها بالنهاية.
كان بين مصر وسوريا فى ذلك الحين معاهدة دفاع مشترك، برر بها صانع القرار ضرورة الاستعداد للحرب، ما دامت الحشود الإسرائيلية تتدفق على الحدود مع حليفتنا، وقد كان من المتوقع أن تعود الأمور إلى الهدوء بمجرد أن تتأكد مصر من عدم وجود حشود، لكن الدق على طبول الحرب تواصل لأسباب غير مفهومة. وبدت مصر وكأنها نوت الوقوع فى الفخ الإسرائيلى بمحض إرادتها ورغبتها. فإسرائيل أفلحت فى إقناع الروس ومن ثم المصريين بأن هجوماً ضخماً يوشك أن يقع على سوريا، والهدف من ذلك جر مصر إلى حرب، كان الصهاينة والأمريكان أكثر الناس علماً بأنها غير مستعدة لها. وقد استسلمت القيادة المصرية لما يحاك لها بصورة تدعو للاستغراب، وحققت للعدو عبر الحملة الكلامية التى قامت بها أجهزة الإعلام المصرية أكثر مما تمنى، فبدأ فى توظيف مقولتها التى تدور فى فلك «إلقاء إسرائيل فى البحر» فى طلب الدعم الدولى لحربه المتوقعة ضد مصر والعرب.
تسارعت الأحداث داخل المنطقة، وشرعت مصر فى حشد قواتها على طول الجبهة مع إسرائيل، وأخذت إسرائيل من جهتها تعد العدة لمواجهة شاملة رتبت لها مع القوى الدولية المساندة لها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. لم تكن مصر مستعدة حينذاك لخوض حرب لأسباب عديدة، لكن القيادة السياسية -ممثلة فى عبدالناصر- والعسكرية -ممثلة فى عبدالحكيم عامر- أصرتا على الشحن الجماهيرى عبر الإعلام، وحشد القوات فى سيناء. يذكر وجيه أبوذكرى فى كتابه «مذبحة الأبرياء» أن عبدالناصر سأل «عامر» فى اجتماع اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكى: هل أنت مستعد يا عبدالحكيم؟. فرد «عامر»: برقبتى يا ريس!
كان المصريون يتابعون هذه الأحداث ويستمعون إلى الشعارات التى تتردد فى الحملات الإعلامية فيمتلئون بالثقة فى قدرتهم وقدرة قيادتهم على تحقيق نصر حاسم على عدوهم. النفس المصرية بطبيعتها تواقة إلى الإحساس بالقوة والقدرة. فهى ابنة حضارة سادت العالم فى عصور مختلفة، لكنها لم تكن تفرق خلال هذه الفترة بين الحقيقة والأوهام. فقد تعودت عبر السنين التى سبقت حرب 1967 أن تنسجم بالصوت أكثر مما تلتفت إلى المعنى، وأن تنشغل بالشكل أكثر مما تكترث بالمضمون. لم يكن المصريون يعتنون حينذاك بفكرة «التخطيط»، بل سيطرت عليهم فكرة «العدد» والقدرة على «تحشيد» عشرات الألوف من البشر، لأن عددنا كبير، وهذا العدد قادر على التهام الصهاينة بأسنانه، وكان الإعلام يغذى هذه الترهات فى عقولهم. وظلت الحال كذلك حتى استيقظوا على كارثة. لخص أحمد بهاء الدين هزيمة مصر أمام إسرائيل عام 1967 بأنها هزيمة دولة لا تعتنى بالتخطيط أمام دولة عصرية!