بقلم: د. محمود خليل
رغم أن الأجيال التى تعاقبت بعد محمد على أصبحت أكثر تناغماً مع فكرة «النظام» وأكثر التزاماً ممن سبقها بالترتيبات التى سنَّتها الدولة لتنظيم الحياة، إلا أن شخصية «أدهم» القابعة داخل قطاعات من المصريين دفعتهم فى أحوال إلى تمجيد بعض التجارب الفوضوية ويحتفون بالحكايات التى تتناول سيرة أشخاص تحدوا النظام. دعونا نتأمل فى هذا السياق نموذجين أبهرا أدهم المصرى، أحدهما ظهر خلال منتصف العقد الثانى من القرن العشرين (أدهم الشرقاوى)، والثانى أواخر العقد الخامس من القرن ذاته (محمود سليمان).
بطل القصة الأولى اسمه «أدهم» وهو بالمناسبة نفس اسم بطل حكاية نجيب محفوظ الأولى فى «أولاد حارتنا»!. على أية حال أدهم الشرقاوى هو ابن عبدالحليم الشرقاوى من أعيان إيتاى البارود، حصل على الشهادة الابتدائية وسلك دروب التعليم الثانوى، لكنه توقف عن الدراسة بسبب مشكلات حدثت بينه وبين عمه عبدالمجيد بك الشرقاوى، وقد اتهمه الأخير بالشروع فى قتله ومحاولة سرقته مرتين، فحكمت عليه المحكمة بالسجن لمدة 7 سنوات، وحدث أن التقى داخل محبسه بأحد أتباع عمه ممن شهدوا عليه زوراً فقتله، ليحاكم من جديد ويطول به المقام فى السجن. خدمت الظروف أدهم بعد ذلك حين قامت ثورة 1919 واختل النظام العام بالبلاد فهرب مع غيره من السجن وأخذ يطارد عمه وابن عمه وترأس عصابة من الأشقياء أثارت الفزع فى شمال الدلتا لعدة شهور. وانتهى الأمر بمقتله على يد شاويش بالبوليس المصرى. فى كتاب «رجال ريّا وسكينة» حكى المبدع الراحل «صلاح عيسى» قصة «أدهم» الذى تغنَّت به المواويل وحكت حكايته الأفلام السينمائية، وبلغت به أعلى درجات التمجيد، رغم أنه لم يزِد -كما يذكر «عيسى»- عن كونه ابن ذوات غرَّته قوته، وأفسده تدليل أسرته، وأبطره ثراؤها، وقاده إلى الجريمة.
بطل القصة الثانية هو محمود أمين سليمان -أو السفاح كما كان يطلق عليه وقتها- وهو لص احترف سرقة بيوت وفيلات الأغنياء، حتى أُشيع وقتها أنه سرق فيلا أم كلثوم، وتم القبض عليه بعد وشاية من شقيق زوجته، وانتهى به الأمر إلى السجن. أحب الرجل زوجته حباً كبيراً وانقلبت أحواله داخل السجن عندما علم أن علاقة مشبوهة تربط بينها وبين المحامى الذى يدافع عنه، فقرر الهروب وفعلها، حاول قتل الخائنة وعشيقها لكنه لم يفلح، لكن قتل أكثر من شخص فى محاولة سعيه للانتقام من أعدائه. تمتع محمود سليمان بقدرات عجيبة على الهروب من البوليس والإفلات من مطارديه، وتشكلت حول حكايته مجموعة من الأساطير الشعبية كان أبرزها أنه يأخذ المال من الأغنياء ليعطيه للفقراء!. ومع زيادة اهتمام الجرائد بتتبع أخباره، وسرد حكاياته، ارتفع معدل الاهتمام بشخصيته، وأخذت المخيلة الشعبية تنشط فى الدفاع عنه وتبرير تحديه للنظام، بل وتمجيد فوضويته. أمام هذا الوضع الذى اهتزت فيه صورة الدولة لم يكن هناك بُد من أن تتحرك السلطات بقوة لتقضى عليه وهو ما كان. عالج الراحل نجيب محفوظ سيرة «محمود أمين سليمان» بطريقته الخاصة فى رواية «اللص والكلاب»، وقد تحولت بعد ذلك إلى فيلم سينمائى.
الانفعال الشعبى بهذين النموذجين يؤشران إلى أن الثقافة المصرية لم تنجُ من فكرة «تمجيد النماذج الفوضوية». ومثل هذه النماذج تظل شاهداً على أن بناء الدولة الحديثة فى مصر لم يكن ضمن أولويات التغيير العميق للثقافة المصرية، ربما يكون قد مسها على مستوى السطح، لكنه لم يتغلغل إلى أعماقها بحيث تتوازى جهود تنمية المكان مع الارتقاء بفكر الإنسان وثقافته.