بقلم: د. محمود خليل
اشتهر اسم حسن البنا فى الإسماعيلية وكثر أتباعه بها وتكاتفوا فيما بينهم لإنشاء دار ومسجد للإخوان، وصفها محمود عبدالحليم بـ«أول دار للإخوان»، وكأنها أول دار فى الإسلام، وساهمت شركة قناة السويس التى يسيطر عليها الأجانب، هؤلاء الذين يعاملون «أداهم المصريين» معاملة الخدم والعبيد، بمبلغ مالى محترم فى إنشاء دار الإخوان ومسجدها بالإسماعيلية، وهو ما يسجله محمود عبدالحليم بلا مواربة وهو يؤرخ لتجربة المرشد للجماعة، ويعلق على الخطوة التى اتخذها الأجانب بدعم جماعة الإخوان مالياً فى بداياتها الأولى بقوله: «ظنوها دروشة»، على أساس أن «الدروشة» تعكس رؤى وطقوساً خرافية للدين.
دعونا نفصل القول فى «الخيط الأدهمى» الذى أتى فى سياق حديث مؤرخ الإخوان عن البدايات الأولى للجماعة على يد حسن البنا، وهو خيط الدروشة. حدثتك أن الدروشة مكون أساسى من مكونات «العقل الأدهمى»، وأن الخديو إسماعيل حاول أن يقاوم عادة «الدوسة» ولم يفلح. وهى العادة التى يتمدد فيها المريدون على الأرض بعد حفلات الزار الجماعى ليطأهم شيخ الطريقة بحوافر الفرس الذى يمتطيه، فيدق عظم هذا ويسحق رأس ذاك. الدروشة ببساطة تعنى التسليم -بلا عقل أو تفكير- لشخص أو جماعة أو صاحب مقام أو صاحب موقع أو صاحب فضيلة، فالشخص أو الصاحب -موضع الدروشة- شيخ فى قبر أو آخر يسعى، قد يكون قائداً أو زعيماً أو مرشداً، قد يكون أيضاً غير ذلك. وفى المجمل تعبِّر الدروشة عن حالة تدفع المريد إلى تسليم زمام أمره إلى صاحب الساحة التى يتدروش فيها.
منذ أن بدأ نشاطه سعى حسن البنا إلى مغازلة هذا الخيط الأدهمى، فقدم جماعته كجماعة صوفية تسعى إلى ترقيق القلوب عبر الأوراد والأذكار، والسياحة فى أرض الله وقضاء الليالى فى الخلاء، وتذكر الله تعالى والتأمل فى المشاهد المحيطة، وإطلاق العنان للخيال ليسرح فى جنان الخلد وما فيها من نعم وأطايب وحياة رخوة ذلول، تماماً مثلما كان يفعل «أدهم» -بطل الحكاية الأولى من «أولاد حارتنا»- بعد طرده من البيت الكبير عندما كان يخلو إلى نفسه فى ساعات الليل فيذكر «الجبلاوى» والحديقة والحياة الأجمل والأرشد والأعدل التى كان عاشها فى البيت الكبير. ومن خلال هذه الطقوس الصوفية وضع الشيخ حسن البنا البذرة الأولى لجماعته وتمكن من جمع المريدين من حوله على أساس أنه صاحب طريقة.
وضع «المريد» هو الخطوة الأولى ضمن سلسلة خطوات يقطعها العضو المنضم إلى حلقة الذكر الإخوانى ليصبح فى النهاية «جندياً» من جنود الجماعة يسمع ويطيع للمرشد، كما يسمع ويطيع «المريد» لشيخ طريقته. لقد اخترق «البنا» تلك المساحة المعتمة فى النفس الأدهمية التى تدفعها دائماً إلى التسليم للشيخ والتمرغ على أعتابه، وللأب داخل البيت، وللكبير داخل العائلة، وللمعلم داخل حلقة العلم. إنها الثقافة التى رضعها «الأداهم» منذ لحظات الميلاد الأولى، ثقافة «اسمع كلام فلان وعلان ولا تجادل». نجح «البنا» فى استقطاب هذا النوع من الأداهم نجاحاً كبيراً، لأنه ببساطة استطاع أن يبصر ويتوقف أمام ما يبصره الجميع ويعبرون عليه!.