بقلم : د. محمود خليل
سقطت الورقة الأخيرة التى تبقّت من شجرة ثورة يوليو. مات خالد محيى الدين، أحد قيادات الصف الأول للتنظيم الذى أطاح بالملك فاروق عام 1952 عن عمر يناهز الـ95 عاماً. كل أعضاء التنظيم ماتوا قبله وعاش بعدهم سنين عدداً. طيلة مشوار عمره كان «محيى الدين» الورقة الأكثر رسوخاً وثباتاً فى شجرة يوليو. لم يتغير ولم يتحول، ودفع ثمن ثباته على مبادئه ومواقفه بابتسامة رضا وثقة ما فتئت تعلو وجهه فى كل المواقف.
كان خالد محيى الدين أكثر ضباط يوليو انحيازاً إلى الديمقراطية، وخلال أزمة مارس 1954 حسم موقفه مع اللواء محمد نجيب، رئيس الجمهورية حينذاك، ورغم أن الكثير من الشواهد تؤكد على أن «نجيب» نظر إلى الديمقراطية كورقة بإمكانه أن يُحرج بها مجلس قيادة الثورة شعبياً، فقد كان «محيى الدين» يرى فى الديمقراطية الحالة الطبيعية للحكم. تعاصرت فترة شباب خالد محيى الدين مع الانتكاسات التى تعرضت لها التجربة النيابية فى مصر بسبب تكتل الاحتلال والقصر وكبار الملاك وموظفى الدولة ضد دستور 1923 الذى مثّل الثمرة الأطيب لثورة 1919، وشأنه شأن الكثير من أبناء جيله تقلب على تلك الجماعات التى حاولت تقديم بديل سياسى واجتماعى يعوض إخفاق الوفد فى تحقيق أهداف الثورة، ومن بينها جماعة الإخوان وحركتا «إيسكرا» و«حدتو» اليساريتان. آثر الرجل الاستقالة من مجلس قيادة الثورة والتوارى إلى الظل عام 1954 بعد أن قهرت رياح «حكم الفرد» أى محاولات لبناء نظام ديمقراطى.
أجمع كل من عبدالناصر والسادات على اتهام خالد محيى الدين بـ«الشيوعية». وواقع الحال أن الرجل كان اشتراكياً يدافع بقوة وثبات عن حقوق الفقراء، ولم تمنعه قناعاته الاشتراكية من رفض حكم الفرد والدفاع بحرارة عن الديمقراطية، والنظر إليها كسبيل وحيد لبناء دولة عصرية. خلافاً للكثير من الضباط الأحرار تمتع خالد محيى الدين برؤية سياسية متماسكة ظهرت بصورة واضحة خلال المرحلة التى أسس فيها حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى عام 1977، وهو ما انعكس على البرنامج الذى أعده الحزب تحت رئاسته، وكان أكثر البرامج وضوحاً ورصانة بين البرامج المختلفة التى قدمتها الأحزاب التى ظهرت خلال التجربة الحزبية لمصر ما بعد الثورة.
خلال انتخابات مجلس الشعب المصرى (1987) أطل خالد محيى الدين -ربما لأول مرة- على المصريين من خلال شاشة التليفزيون، تحدّث وقتها عن برنامج الحزب ورؤيته السياسية والاقتصادية، لم تفارق ابتسامة الثقة وجهه طيلة الوقت المخصص له. وأتذكر جيداً أن حديثه كان له أثر واضح على كثيرين ممن استمعوا إليه، وأبرز ما سجله مواطنون عاديون حينها على شخصية «محيى الدين» أنها تتمتع بقدر محسوس من «الاستقامة»، استقامة المواقف مع ما ينادى به من أفكار، واستقامة أفعاله مع أقواله. لم يكن للرجل طموح شخصى، بل كان جل طموحه منصرفاً إلى الحلم بوطن أفضل ينعم بحياة سياسية ديمقراطية، وحياة اقتصادية تحقق مبدأ العدالة الاجتماعية. رحم الله الضابط النبيل خالد محيى الدين.
نقلا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع