بقلم : د. محمود خليل
اللهم ارحم شهداء حادث قطار محطة مصر واشف مصابيه وأسبغ على قلوب الحزانى والمكلومين صبراً جميلاً. تناولت وغيرى حوادث السكك الحديدية فى مصر غير مرة، وفى كل الأحوال كلنا يعلم أن الحادثة التى نتناولها ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. ما دام العدو موجوداً سيتواصل حصد الأرواح. والعدو هو الفساد الذى يفوق فى خطره الإرهاب. فمن يقاتل إرهابيين يعلم هدفه ويفهم رسالته ويستوعب دوره، وهو يحمى بما يقوم به أرواحاً بريئة، يفتديها فى أحوال بروحه. أما الفساد فأدهى وأمر، فأشباحه تعشش فى كل مكان، وترتع فى كل ركن، وتقتل فى كل لحظة، وكأن رسالتها فى الحياة إزهاق الأرواح وحرق القلوب عليها.
كلام كثير أثير على هامش الحادث الموجع الذى اعتصر قلوب أبناء هذا البلد الطيب. البعض قال إن الجرار الذى تسبب بانفجاره فى حرق الأجساد المنهكة تحرك دون سائق، أو بميكانيكى من ورش السكك الحديدية وليس سائقاً متخصصاً، أو بسائق قفز منه قبل اصطدامه عندما وجد الجرار بلا فرامل. اللافت أن أحد المسئولين بمحطة مصر ذكر أن هذه ليست المرة الأولى التى يخرج فيها جرار دون سائق!. إنه الفساد الذى توغل وتغلغل داخل كافة المؤسسات حتى تحول إلى نار تندلع وحياة تنقطع فى لحظة غادرة ودون سابق إنذار. أصل الفساد الإدارى معلوم بالضرورة، حيث يرتكز على قاعدتين؛ الأولى: «اختيار الأسوأ فى العديد من المواقع»، والثانية: «غياب مبدأ الثواب والعقاب».
اختيار الأسوأ كان سراً من أسرار سقوط الاتحاد السوفيتى، فبسببه انهارت دولة عتيدة بهذا الحجم والتأثير، استيقظ أهلها ذات صباح فلم يجدوا دولة. مؤكد أنك تعرف قصة الجاسوس الروسى الذى كان مسئولاً عن اختيار القيادات فى بعض المواقع السوفيتية وجنّده الأمريكان وحددوا مهمته فى مسألة واحدة: «عندما تُعرض عليك أسماء.. ضع عينك على الأسوأ واختره للموقع». وجود الأسوأ هو السبيل الأول للفساد، فالأسوأ يسهل السيطرة عليه لكونه «معيوباً». أما غياب مبدأ الثواب والعقاب فحدّث عنه ولا حرج. الجسد المصرى بمجمله ينتفض عند وقوع حادثة، ترتفع الأصوات حينها مطالبة بعقاب المسئول ومحاسبة كل من له يد فيما حدث، وبمرور الوقت تموت أحداث وتولد أخرى، وتطوى الأيام صفحة ما وقع، ليعود الفساد إلى مواقعه سالماً متربصاً ومجهزاً لضربة جديدة. فى حادثة قطار العياط عام 2002 برّأت المحكمة كل المتهمين فيها باعتبارهم من صغار الموظفين وأكدت أن المتهمين الحقيقيين خارج القفص وطالبت بمحاكمة كبار المسئولين.
علينا أن نعترف بواقع الفساد الذى يحاصرنا ويهددنا ويجعل أى مواطن عرضة للموت الغادر فى أية لحظة. من أفضى إلى الله ذهب إلى رحمن رحيم، وترك من خلفه قلوباً تحترق، وعقولاً تأكلها الحيرة، ويُقل راحتها سؤال: «حتى متى؟». اللهم ارحم هذا الشعب الطيب الذى لا يرجو أغلب أهله كثيراً من الحياة، الشعب الذى يسعد أبناءه أقل القليل. مشكلتنا كبيرة وأحزاننا متكررة، واليأس من وجود حل يحاصر مساحة الأمل فينا، ولا نملك إلا أن نقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون».
نقلا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع