بقلم : محمود خليل
فى تقديرى أنه يجمل بالمسلم وهو يتفاعل مع النص القرآنى أن يفهم أن وجود آيتين تحملان حكمين مختلفين لا يعنى أن إحداهما تجبُّ الأخرى، وأن يستوعب أن أحدهما صالح لزمان ومكان وظرف، والثانى مناسب لزمان ومكان وظرف آخر. وعليه أيضاً أن يفهم أن آيات القرآن لا يناقض بعضها بعضاً، بل تقدم مجموعة من التباديل والتوافيق التى تأخذ فى الاعتبار اختلاف وتباين الظروف الإنسانية. يقول الله تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ». فالاختلاف بين البشر سُنّة من سنن الله فى خلقه، يرتبط بحركة التطور فى الزمان والمكان. نحن لسنا بصدد أحكام متغيرة، بل أمام «أحكام متنوعة»، والتنوع هنا لا يخل بإيمان المسلم بذات الله تعالى الأزلية الثابتة، بل يعنى وعياً بأن الله تعالى المحيط بالزمان والمكان، والعليم بخلقه والطبيعة المختلفة لهم، والسياقات الظرفية التى تحكمهم، منحهم أحكاماً مختلفة تساعدهم على التعامل مع الواقع المتغير. فى سياق تناول مسألة «الناسخ والمنسوخ» فى القرآن الكريم يقول نصر حامد أبوزيد فى كتابه «مفهوم النص»: «إن تغاير أفعال الله فى العالم لا يعنى تغيراً فى ذات الله أو فى علمه، وكذلك إبدال آية مكان آية وتغيير الحكم لا يعنى (البُداء) أو أن الله يقرر أمراً ثم يبدو له فيه رأى آخر. إن النظر دائماً إلى الله فى مناقشة قضايا الوحى والنص إغفال للبعد الآخر الهام وهو الواقع والمتلقين. إن الأحكام الشرعية أحكام خاصة بالبشر فى حركتهم داخل المجتمع، ولا يصح إخضاع الواقع لأحكام وتشريعات جامدة لا تتحرك ولا تتطور».
لو استوعب سيد قطب مجموعة الأمور السابقة لأراح نفسه وأراح الناس. فالمبدأ فى علاقة الإسلام بالآخر هو «عدم الاعتداء»، انطلاقاً من قاعدة «إن الله لا يحب المعتدين». فالمسلم لا يبادر إلا لقتال من قاتله واعتدى عليه. يقول الله تعالى: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ». الآيات الكريمة التى تُلزم المسلم بعدم الاعتداء على الغير إلا فى حالة رد الاعتداء عليه حكمها قائم فى الظروف العادية الغالبة، أما فى غير هذه الظروف، حين توجد اعتداءات ومظالم خارجية تقع على المسلمين، فلهم أن يلتزموا بأحكام «آيات القتال»، وهى فى المجمل أحكام طارئة ترتبط بظرف استثنائى، فإذا زال الظرف زال الحكم. وقرار الحرب فى الظروف التى يتم فيها الاعتداء على المسلمين مداره ولىّ الأمر الذى يتحمل المسئولية بحكم إلمامه بكافة المعلومات المتعلقة بحجم الاستعدادات والإمكانيات المتاحة لمواجهة العدو، مما يجعله الأقدر على اتخاذ القرار المناسب. مسألة الحرب والمواجهة فى هذه الحالة ليست موكولة إلى أفراد أو جماعات تعمل خارج نظام الدولة لسبب بسيط هو أن «آيات القتال» نزلت حين أصبح للمسلمين دولة فى المدينة المنورة، أما قبل ذلك فقد نهى القرآن نبيه صلى الله عليه وسلم والجماعة المؤمنة به عن قتال المشركين.
معاذ الله أن يكون فى القرآن الكريم تناقض أو تضارب فى الأحكام، بل التناقض خصلة من خصال الواقع وسمة من سمات الإنسان. فى هذا السياق يصبح «النسخ» عملاً من أعمال الواقع ولا يعكس بحال تناقضاً فى النص القرآنى. النسخ الذى ورد فى آيات القرآن الكريم مداره الاستجابة للواقع والتيسير على البشر وعياً بظروفهم. يقول نصر حامد أبوزيد: «وإذا كانت وظيفة النسخ هى التدرج فى التشريع والتيسير، فلا شك أن بقاء النصوص المنسوخة إلى جوار النصوص الناسخة يُعد أمراً ضرورياً، وذلك لأن حكم المنسوخ يمكن أن يفرضه الواقع مرة أخرى. وقد أدرك العلماء ذلك حين ناقشوا موقف النص بين أمر المسلمين بالصبر على أذى الكفار وبين أمره بقتالهم، وقالوا إن الأمر بالصبر من قبيل (المنسأ) الذى يتأجل العمل به، أو يلغى إلغاء مؤقتاً لتغير الظروف، فإذا عادت الظروف إلى ما كانت عليه من قبل ذلك عاد حكم المنسأ إلى الفاعلية والتأثير».