بقلم : محمود خليل
فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم كان يُطلق على حفظة القرآن الكريم وصف «القراء»، وقد حظيت هذه الفئة بمكانة عالية داخل المجتمع المسلم، وامتازوا بالإخلاص الشديد للدين والدفاع المستميت عن قضايا الأمة. الظهور الأول البارز لفئة القراء كان فى عصر أبى بكر الصديق، حين أبلوا بلاء حسناً فى قتال أهل الردة، وسقط منهم جمهرة من الشهداء فى واقعة «اليمامة»، وكادت هذه الفئة تهلك عن آخرها فى هذه الحرب، وهو ما دفع أبا بكر الصديق إلى اتخاذ قراره بجمع القرآن الكريم. الظهور الثانى لفئة «القراء» جاء بعد تولية على بن أبى طالب خلافة المسلمين ونشوب الخلاف بينه وبين عائشة والزبير وطلحة، حين انحازوا إلى «على» وقاتلوا إلى جواره فى موقعة «الجمل»، وعندما نشب خلاف مماثل بين «على ومعاوية» ونشبت موقعة صفين انحازوا من جديد إلى «على» وقاتلوا إلى جواره حتى دعا جنود «معاوية» إلى تحكيم كتاب الله واستجاب «على».
إذن «الخوارج» فى الأصل كانوا جزءاً من جيش على بن أبى طالب الذى قاتل ضد معاوية بن أبى سفيان، وكان أغلبهم من القراء، أى حفظة القرآن الكريم. وقد اختلفوا مع «على» عندما رضى بتحكيم الرجال فى الصراع الدموى الناشب بينه وبين «معاوية»، وتشكلت «المحكمة» من أبى موسى الأشعرى وعمرو بن العاص. وبعد أيام ثلاثة من التداول بين الحكمين انتهيا إلى خلع كل من «معاوية وعلى»، وهو حكم لم يرضَ عنه أنصار الخليفة الثالث، واستخدمه الخوارج فى تقبيح فعله حين وافق على التحكيم من بداية الأمر. انتهى الأمر بالخوارج إلى الانشقاق عن جيش «على»، والانسلاخ عن المجتمع، ليستقلوا بجماعتهم التى تتبنى أفكارهم فى تكفير مَن يخالفهم رأيهم فى «على ومعاوية» وكل من تحلَّق حولهما من صحابة النبى والتابعين.
مشكلة «حفظة القرآن» من الخوارج أنهم كانوا يأخذون بظاهر الآيات دون التأمل الكافى لمقاصدها ومراميها. فقد رفعوا شعار «لا حكم إلا لله» وعابوا على الخليفة قبول التحكيم رغم أنهم قاتلوا معه «معاوية» بناء على حجة واضحة من القرآن بأن «معاوية» وأهل الشام بُغاة خارجون عن الخليفة. وقد رد عليهم ابن عباس فى هذا السياق بتذكيرهم بقول الله تعالى: «يا أيُّها الذينَ آمنُوا لاَ تقتلُوا الصَّيدَ وأنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قتلهُ منكم متعمداً فجَزاء مثلُ مَا قتَلَ مِنَ النعَم يَحّكُمُ بهِ ذوَا عَدّلٍ منكُم»، وقال لهم ابن عباس: ذلك فى ثمن صيد أرنب أو نحوه قيمته ربع درهم فوض الله الحكم فيه إلى الرجال، ولو شاء أن يحكم لحَكمَ، ثم استطرد وذكر لهم قول الله تعالى: «وَإنْ خفتمْ شِقاق بَينهما فابْعثوا حَكماً من أهلهِ وَحَكماً من أهلِهَا» سورة النساء.
شذ فكر الخوارج وانحرف حين تطرق إلى مسألة الحاكمية، بسبب اندفاعهم إلى تأويل آيات القرآن الكريم تبعاً لمعانيها الظاهرة والدلالة العامة لألفاظها، وخصوصاً الآيات التى تنص على أن الحكم لله تعالى. وما أكثر ما أسسوا عليها أحكاماً دفعتهم إلى تغييب الحسابات السياسية، وساقتهم إلى الهلاك فى صراعات غير متكافئة. وصدق رأى على بن أبى طالب فيهم، حين وصف كلامهم بأنه: «حق يراد به باطل»!.