بقلم : محمود خليل
بدأت ولاية الخديو إسماعيل بمشهد مثير لـ«أدهمين صغيرين» يأكلان بعضهما بعضاً. فقد جرت العادة بأن يمنح من يتولى شرف تبليغ ولى عهد مصر بخبر وفاة سلفه وتوليه الحكم خلفاً له رتبة البكوية ونفحة مالية معتبرة. لذا فقد مكث رئيس مصلحة التلغراف (موظف بدرجة بك) أمام ماكينته فى انتظار وصول برقية بوفاة «الوالى سعيد باشا» بعد أن علم أنه يحتضر بالإسكندرية. مرت 48 ساعة وهو على هذه الحال حتى أنهكه التعب فطلب من مساعده الجلوس إلى جوار الماكينة وأن يوقظه مباشرة فور وصول الخبر ووعده بمكافأة مقدارها 500 فرنك. نام «البك» وهو يحلم برتبة الباشوية والنفحة المالية، وبالفعل وصل الخبر المنتظر أثناء نومه فطار به مساعده إلى الأمير إسماعيل فنال رتبة البكوية ونفحة مالية، ثم عاد الخبيث إلى رئيسه وأيقظه وأعطاه التلغراف فمنحه الأخير الـ500 فرنك التى وعده بها، وعندما ذهب إلى إسماعيل ليخبره رد عليه الوالى بأن معلوماته قديمة وأن الخبر قد وصل إليه. أدرك الرئيس خيانة مرؤوسه فعاد إليه ليوبخه فزجره الأخير قائلاً: «أنا بك مثلك.. إياك أن تخطئ فى حقى»!
المكائد والمؤامرات والمنافسة على المكاسب الصغيرة قواعد أساسية تحكم علاقة الموظفين ببعضهم البعض منذ دخول «أدهم» إلى عالم «الوظيفة الميرى» فى عصر الوالى الكبير محمد على. وكل الولاة الذين تداولوا على مصر كانوا يعلمون ذلك ويفهمون أن دولة أخرى عميقة قد تشكلت فى أضابير الدواوين لا تقل قدرة على التأثير فى الأحداث من الولاة الفعليين ساكنى القصور. وقد تحركت عناصر من الدولة العميقة فى بدايات حكم «إسماعيل» لتوتر العلاقة بينه وبين فرنسا، حين قام عدد من الموظفين بالاعتداء على أحد الرعايا الفرنسيين، فغضب القنصل الفرنسى لذلك غضباً شديداً وأبلغ إسماعيل بما حدث، فتحرك الأخير بسرعة وحسم فعاقب الجناة وحكم بتبعيدهم عن العاصمة.
كان «أداهم الدواوين» فى ذلك الوقت منقسمين، فبعضهم لم يكن يرضى عن انحياز الوالى سعيد إلى الأجانب ووقوعه فى أحضانهم، بعد سنوات قضوها فى حكم الوالى عباس حلمى قام فيها الأخير باستبعاد الأجانب من مصر وأغلق بابها على أهلها، خلافاً لنهج جده محمد على. لم يكن الحزب العباسى بالحزب الهين أو الضئيل وكان أغلب أفراده يراهنون على أن عهد سعيد لن يطول، وأن الوالى الذى سيخلفه فى الملك (أحمد رأفت باشا) النجل الأكبر لإبراهيم بن محمد على سيعيد الأمجاد العباسية، لكن الرياح أتت بما لا يشتهيه هؤلاء، حين سقطت عربة القطار التى تقل الأمير أحمد رأفت فى النيل وغرقت عند كفر الدوار، ليصبح الأمير إسماعيل ولياً للعهد بدلاً منه. وقيل فى تفسير الحادثة إن الموظف المسئول نسى أن يغلق كوبرى كفر الدوار وتركه مفتوحاً!
وفى محاولة للتلخص من أفراد الحزب العباسى داخل الدولة العميقة تمهيداً للبدء فى تجربته التحديثية بادر إسماعيل إلى اتخاذ العديد من القرارات لتحرير عقل الموظف والعامل والفلاح «الأدهمى» من التماهى مع العصر العباسى (عصر عباس حلمى الأول). وجاء على رأس هذه القرارات إلغاء نظام السخرة فى التشغيل. يسجل إلياس الأيوبى فى كتابه «تاريخ مصر فى عهد الخديو إسماعيل باشا» أن الخديو قرر بعد أسابيع قليلة من تولى الحكم إلغاء طريقة السخرة المشئومة التى اتبعتها الحكومة فى أشغالها، والتى هى السبب الأهم، بل الأوحد، الحائل دون بلوغ القطر كل النجاح الذى هو جدير به. ولا خلاف على أن إلغاء السخرة أعاد لأدهم جزءاً من الحرية التى كان ينعم بها فى البيت الكبير، لكن قرارات أخرى للوالى الجديد أزعجته كل الإزعاج.