بقلم: د. محمود خليل
كان أبوموسى الأشعري هو الاستثناء الوحيد من النهج الذي انتهجه الخليفة الثالث عثمان بن عفان بتعيين أقاربه ولاة على الأمصار الكبرى والتي كانت تشمل مصر والشام والكوفة والبصرة، حيث عيّن ولاة أمويين على كل من مصر والكوفة، واستثنى من التغيير قريبه معاوية الذي سبق أن عيّنه عمر بن الخطاب والياً على الشام، والعلاقة العائلية بين معاوية وعثمان معلومة بالضرورة، وعيّن أبوموسى الأشعري والياً على البصرة.
وعندما اشتدت المحنة وأصبحت الدماء بحوراً بين المسلمين المتقاتلين في موقعة «صفين» كانت الدعوة إلى التحكيم التي أطلقها عمرو بن العاص. واتفق الفريقان على المحكمة، فوكّل معاوية عمرو بن العاص (صاحب الفكرة)، وأراد «علي» أن يوكل عبدالله بن عباس فمنعه القراء (الخوارج في ما بعد)، وقالوا: لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري.
اجتمع الحكمان في «دومة الجندل» وأخذا في التشاور وانتهيا إلى خلع كل من معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب على أن يختار المسلمون لأنفسهم خليفة لم يتورط في دم. وخرج الاثنان ليعلنا للناس نتيجة التحكيم، فتقدم «أبوموسى» وقال: لقد اتفقت على خلع علي، ومن بعده تقدم عمرو بن العاص، وقال: وأنا اتفقت على تثبيت صاحبي، فيصرخ فيه أبوموسى قائلاً: إن مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فيرد عليه عمرو: ومثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
حاول المؤرخون رسم أبي موسى الأشعري في صورة «الرجل الطيب» الذي خدعه الداهية عمرو بن العاص، لكن الرباط الذي كان يربط «الأشعري» بالعائلة الأموية والذي دفع «عثمان» إلى تعيينه والياً على البصرة من خارج العائلة، يجعلنا نتحفّظ بعض الشيء على مسألة «الطيبة» تلك. فعلاقته بالعائلة ثابتة. ويحكي الذهبي في «سير الأعلام النبلاء» عن عكرمة، قال: «حكّم معاوية عمرو (يقصد عمرو بن العاص)، فقال الأحنف لعلي: حكّم ابن عباس، فإنه رجل مجرب. قال: أفعل. فأبت اليمانية، وقالوا: حتى يكون منا رجل. فجاء ابن عباس إلى علي، فقال: علام تحكم أبا موسي، لقد عرفت رأيه فينا، فوالله ما نصرنا، وهو يرجو ما نحن فيه، فتدخله الآن في معاقد أمرنا، مع أنه ليس بصاحب ذلك».
الرواية السابقة التي رواها «الذهبي» تشهد على احتمالية أن التحكيم لم يشهد خدعة، بل على العكس فقد كان عداء «الأشعري» لعلي ظاهراً، وانحيازه إلى «معاوية» سافراً، وبالتالي يصح أن نُشكك في مسألة «الطيبة» التي تعلل بها بعض المؤرخين في تفسير النتيجة التي تمخّض عنها التحكيم، وحتى مع قبول نتيجة التحكيم بخلع علي ومعاوية، فإن الأمر لا يخلو من انحياز ضد علي من جانب «أبي موسى»، فكيف يتساوى رأس الخليفة مع رأس الوالي؟.
ويقول «الذهبي»: «اجتهد الأشعري قبل موته اجتهاداً شديداً، فقيل له: لو أمسكت ورفقت بنفسك؟ قال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها، أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك».