بقلم: د. محمود خليل
كثيراً ما أقف متأملاً الآية الكريمة من سورة «البلد» التى تقول: «أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ». تلت هذه الآية سابقتها التى تقول: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ».
فسّر القدماء كلمة «كبد» فى الآية الكريمة على وجهين، يذهب أولهما إلى أنها تعنى الشدائد والمشكلات التى يواجهها الإنسان فى الحياة فتشقيه، ويرى ثانيهما أن كلمة «كبد» تعنى الشعور بالشدة وفائض القوة الذى يسيطر على إنسان معين فتشقى به الحياة، حين يعربد فيها كما شاء وشاء له الهوى، منطلقاً من إحساس بأنه قادر على غيره وأن غيره لا يقدر عليه.
كلا الصنفين من البشر يعانى. فمن يكابد شدائد الحياة ومشكلاتها يقاسى ويعانى من ضغوطها وهمومها. ومن يشعر بقوته وشدته أمام الحياة، وقدرته على تسييرها تبعاً لهواه ورغباته يعانى هو الآخر من الحماقة والاندفاع بما يترتب عليهما من نتائج.
مبدأ «الشقاء» فى الحياة هو الذى يحرك الصنف الأول: «فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى». والجهل بطبائع الحياة هو الذى يحرك الصنف الثانى الذى يتيه بإحساس القوة والقدرة على السيطرة «أيحسب أن لن يقدر عليه أحد».
جوهر العلة فى تفكير الإنسان الشاعر بفرط القوة والسيطرة على الحياة، أو الآخر الذى يحس بفرط العجز أمام قهر الآخر له تجده فى مفتتح سورة الإنسان. وهى السورة القرآنية التى حملت هذا الاسم اللافت: «الإنسان». وتقول أولى آياتها «هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا».
فالإنسان ليس شيئاً مذكوراً قبل الميلاد. وحين تباغته الوفاة يصبح أيضاً شيئاً غير مذكور، وكأنه لم يعش على وجه الدنيا. يتحول إلى ذكرى قد يستخلص منها البشر العبرة، وعندما يدور الزمن دورته تطويه سحائب النسيان.
جهل الإنسان بحقيقته كـ«شىء غير مذكور» هو الذى يسوقه إلى الشعور بفائض القوة، ويشحن سعيه نحو اختبار قوته من حين إلى حين، وكلما فاز فى جولة أغراه ذلك بالدخول فى الجولة التى تليها. وهكذا تسير به الحياة ويسير فى الحياة غير آبه حتى تأتيه لحظة الحساب.
أذكر أننى حدثتك عن مخاطر أن تضع قوة معينة نفسها فى موضع اختبار. إنها الحماقة بعينها. الإنسان الذى يشعر بقوة حقيقية لا بد أن يخفض للضعفاء جناح الذل من الرحمة. فالقوة الحقيقية - كما يشير القرآن - تسخّر لحماية المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وليس لقهرهم أو دهسهم. أما القوة المزيفة فهى تلك التى تغرى صاحبها بالدخول فى معارك اختبار تمنحه إحساساً بالسيطرة على غيره، والقدرة على تخطيط مصائرهم بالصورة التى ترضيه.
القوة التى تختبر نفسها ويداخلها إحساس بأنه لن يقدر عليها أحد يحركها الجهل بحقيقة الإنسان كشىء غير مذكور أمام الزمن. المعادلة الزمنية متغيرة باستمرار.. فكل زمن وله ظروفه.. وكل جيل وله طبائعه.. وكل عصر وله مفهومه للقوة ومعطياتها.. وكل شىء فى هذه الحياة متغير.. وكل متغير يجرى عليه حكم الزمن.. والزمن مالوش كبير!.