بقلم: د. محمود خليل
مشهد مثير حدث فى لبنان نقله فيديو تم تداوله داخل عدد من نشرات الأخبار على كبريات المحطات الإخبارية الفضائية. يظهر فى الفيديو شخصان يرتديان «سترة حمراء»، ويضعان على وجهيهما قناع «دالى»، ويقومان بغلق شركة المياه بصيدا بلبنان؛ اعتراضاً على قطع الخدمة عن مواطنين لم يدفعوا فواتير استهلاك المياه. الواضح أن بطلى المشهد تأثرا بشدة بالمسلسل الإسبانى «لاكازا دى بابل» أو «بيت من ورق»، الذى يحكى قصة مجموعة من الشباب قرروا تنفيذ أكبر عملية سرقة فى التاريخ بالسطو على دار السك الملكية بإسبانيا وطباعة مليار يورو والهروب بها، واستغلوا فى تنفيذ العملية الوقت الذى أتاحته لهم الأجهزة الأمنية للتفاوض على إخراج الرهائن المحتجزين بمعرفة أفراد مجموعة السطو.
فكر الشعوب يتغير. فى الماضى كان يُنظر إلى مسألة عدم دفع الفواتير مقابل الخدمة كسلوك معيب يضع صاحبه فى خانة «اللصوص» و«آكلى السحت». الآن اختلفت النظرة لدى قطاعات لا بأس بها من الشعوب التى تعيش أزمات اقتصادية ومعيشية موجعة. فبطلا فيديو «صيدا» بديا وكأنهما يقومان بعمل بطولى. وظنى أن الحسبة التى كانت فى ذهنهما بسيطة، فهما يتصوران أن الحكومة تسرقهما وتغالى عليهما فى ثمن الخدمة، وبالتالى لا يجدان غضاضة فى معاقبتها بعدم دفع الفواتير، وهى حسبة ساذجة لأن الحكومات فى كل الدنيا تملك فى المقابل المعاقبة بإيقاف الخدمة على الجميع، وربما تأسس هذا السلوك على حسبة أخرى، مدارها أن بعض كبار المسئولين بالدولة اللبنانية متهمون فى قضايا سرقة وفساد، وبالتالى فلا مانع من أن يحذو المواطن العادى حذوهم ويسرق هو الآخر المياه والكهرباء والخدمات الأخرى التى يحتاج إليها. هذه الحسبة تفتقد أيضاً إلى المنطق لأنها ببساطة تعتمد على فكرة «الإصلاح بالتخريب»، وهى فكرة شديدة العجب!.
الواضح أن بعض المحتجين داخل الشوارع العربية يتحركون بخلفية يمكن وصفها بـ«الدرامية». بطلا فيديو «صيدا» تقمصا أزياء وأقنعة وأداء أبطال مسلسل «بيت من روق» كما ذكرت لك. هذا التأثر الشكلى عكس أيضاً نوعاً من التأثر بالفكرة الأساسية التى حملها المسلسل والتى تلخصها عبارة «إذا كان الكبار يسرقون فمن حق الصغار السرقة أيضاً». زعيم المجموعة فى هذا المسلسل كان يبرر طباعة البنكنوت على المكشوف وسرقته من دار السك الملكية بأن الحكومة الإسبانية نفسها تفعل ذلك وتطبع المليارات الممليرة على المكشوف لتسقط بعد ذلك فى حجر رجال الأعمال المحظوظين، وبالتالى يكون المبلغ الذى طبعه مع أفراد مجموعته (مليار يورو) مبلغاً تافهاً قياساً إلى ما يلهفه الكبار. ولا يخفى عليك ما يحمله هذا التصور من فكر تخريبى يبرر تحول الحياة داخل المجتمعات إلى «حفلات تخريب كبرى».
علينا التنبه إلى تحول يحدث الآن فى نظرة الشعوب إلى فكرة الدولة. بعض المواطنين أصبحوا لا يرون فى الدولة أكثر من «شركة» ويغذى هذه النظرة أداء بعض الحكومات وبعض كبار المسئولين الذين لا يرون فى المواطن -فى المقابل- أكثر من «زبون». قد تتيح الأيام القادمة فرصاً أكبر لتفصيل هذا التحول الخطير فى علاقة المواطن المعاصر بالدولة.