بقلم: د. محمود خليل
تصنيف البشر إلى فئتين أو صنفين مسألة قديمة فى الثقافة المصرية. أيام المماليك كان المصريون نوعين: أولاً أولاد الناس، وأولاد البلد. أولاد الناس هم أمراء المماليك وأبناؤهم وأفراد عائلاتهم ممن كان يطلق عليهم «الغُز»، أما أولاد البلد فهم الفلاحون والحرفيون وحرافيش المحروسة وزعارها من المصريين العاديين من أهل البلد الأصليين. أولاد البلد كانوا يعملون فى خدمة «الغز»، ولم يكن لأى منهم حق أو حماية فى مواجهة الأمير وآله حال وجود أى خلاف أو سوء تفاهم. ولم يكن هناك مانع فى أن تكون أجرة ابن البلد على عمل قام به لصالح الغُز «علقة». لذا أبدع المصريون المثل القائل «آخر خدمة الغز علقة».
انتهى التاريخ الرسمى للمماليك فى مصر بـ«علقة» نالوها على يد محمد على فى مذبحة القلعة الشهيرة عام 1811، لكن ثقافتهم ظلت باقية مع بعض التعديلات بالطبع. فى عصر مصر الحديثة التى أسسها محمد على أصبح المصريون يصنفون إلى قسمين: «أولاد الذوات» و«الأهالى» الذين كان يطلق عليهم عادة «الفلاحين». أولاد الذوات كانوا يضمون بالطبع أفراد أسرة محمد على، والأتراك والأجانب وبعض المصريين الذين يعملون فى «المعية السنية».
الجديد -أيام محمد على- تمثَّل فى دخول مصريين من «الأهالى» أو الفلاحين إلى فئة «أولاد الذوات». فالمتعلمون فى المدارس التى أنشأها الوالى، وكذلك العائدون من البعثات، أتيحت لهم الفرص للتعيين فى مناصب ومواقع مختلفة داخل دولاب الدولة، وأصبحوا جزءاً من الحكومة. بالطبع لم يكن طريق الصعود الوظيفى للمصريين مفتوحاً قياساً إلى الأتراك والأجانب، لكنهم تمكنوا من وضع أقدامهم على السلم.
فى أية مواجهة تحدث بين أى من أولاد الذوات وفرد من الأهالى، كانت الغلبة فى صالح ابن الذوات. فالصورة الذهنية للفلاح ابن البلد كانت فى منتهى السوء، وكان أولاد الذوات يعتبرونه نموذجاً للمناورة والخبث وقلة العقل والتردى الأخلاقى، ويرونه كائناً لا يجيد إلا الأعمال اليدوية الشاقة التى يتحملها بسبب تبلده.
قامت ثورة يوليو 1952. وكان أول قرار اتخذته إلغاء الألقاب من باشا وبك ومعالى، وأصبح وصف السيد هو المستخدم فى تقديم الجميع. شعار: «ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعباد» مجرد شعار ضمن شعارات أخرى عديدة تزاحمت فى الواقع الجديد الذى كان أبعد ما يكون عما تحمله من دلالات. فسرعان ما عادت ريمة إلى عادتها القديمة.
أصبح سؤال «انت ابن مين فى مصر؟» الأكثر شيوعاً على ألسنة المصريين فى أية معركة أو خلاف، وكان يطرح عادة فى مواجهة سؤال تهديدى آخر يقول: «انت عارف بتكلم مين؟». من جديد عاد أولاد الذوات إلى الظهور بعد ثورة يوليو، لكنهم كانوا من المصريين الخالصين هذه المرة، ولم يكن بينهم غز ولا ترك ولا عجم ولا أروام. كانوا فى أغلبهم من نسل العمال والفلاحين وصغار الموظفين من أولاد البلد وأهالى المحروسة، لكن موقعهم الوظيفى وما يرتبط به من نفوذ مثل الأب الحقيقى لهم، وكان فى الأغلب مصدر التورم فى ذواتهم.
المضحك أن أولاد الذوات الجدد كانوا أكثر شراسة ممن كانوا يسيئون إلى أجدادهم بالأمس. انتصارهم على «أولاد البلد» من البسطاء العاديين ليس محل شك، لكن الأمر يختلف حال وقوع المواجهة بين أفراد منهم ينتمون إلى الفئة نفسها.