توقيت القاهرة المحلي 09:03:38 آخر تحديث
  مصر اليوم -

المولع بالأنس والمتعة

  مصر اليوم -

المولع بالأنس والمتعة

بقلم : محمود خليل

«خير ما تمضى الحياة فى الحديقة والناى!».. كانت تلك أكثر عبارة يرددها أدهم بعد أن أوكل إليه الجبلاوى إدارة الوقف، كما يحكى نجيب محفوظ فى روايته «أولاد حارتنا».

فقد عاش ردحاً طويلاً من حياته ينعم بالاستلقاء على ظهره داخل حديقة البيت الكبير الغنّاء، يتأمل أشجارها وما عمرت به من ثمار، ويسمع صوت طيورها التى لا تتوقف عن الغناء، يتأمل ويسمع حتى يستخفه الطرب فيمسك بالناى وتبدأ النغمات النورانية فى التدفق معبرة عن فرح الروح ورضاء النفس. كان أدهم المصرى يردد لنفسه باستمرار: «الحديقة وسكانها المغردون والماء والسماء ونفسى النشوى هذه هى الحياة الحقة كأننى أجِدّ فى البحث عن شىء. ما هذا الشىء؟ الناى أحياناً يكاد يجيب، ولكن السؤال يظل بلا جواب. لو تكلمت هذه العصفورة بلغتى لشفت قلبى باليقين. وللنجوم الزاهرة حديث كذلك. أما تحصيل الإيجار (يقصد تحصيل الإيجار من مستأجرى أملاك وأحكار الجبلاوى) فنشاز بين الأنغام».

تجربة «أدهم» داخل حديقة البيت الكبير قبل نزوله لإدارة الوقف علمته أن الحياة الحقة هى الحديقة والماء والسماء وعزف الطيور، أما العمل والكد الذى يلاقيه حين يحتك بالمستأجرين لتحصيل أموال الوقف فلا يزيد عن نغمة نشاز بين مجموعة من الأنغام المتسقة المتحابة. النسخة المصرية من «أدهم» تفكر كثيراً على هذا النحو ولو أننا عدنا إلى كتاب وصف مصر فى جزئه المتعلق بعادات وتقاليد المصريين فسنجد «شابرول» يصف المصريين أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر قائلاً: «تراهم -يقصد المصريين- ممددين لجزء طويل من النهار على أرائكهم أو حصرهم، على حسب درجة ثرائهم، حتى تظن أنه ليس فى الدنيا ما يشغلهم إلا أن يملأوا ويفرغوا على التوالى غلايينهم الطويلة، وتبدو مخيلتهم وكأنما قد تخدرت مثل أجسامهم لحد تخال معه -وهم فى حالة التنويم الروحى تلك- أن سماعهم لحكم بالموت صادر عليهم لن يكون بمقدوره أن يثير دهشتهم، وبرغم ذلك فتحت هذا القناع من السلبية البادية على ملامحهم خيال ملتهب. فعادة الصمت تجعل أحاسيسهم على العكس أكثر حدة، كما أنها تعطى لأرواحهم دفعات من النشاط تجعلهم فى بعض الأحيان قادرين على الإتيان بأفعال بالغة الجرأة».

ما رصده «شابرول» ملاحظة وصاغه نجيب محفوظ «إبداعاً» فى وصف التركيبة المزاجية للإنسان المصرى تشرح لنا إلى أى حد يؤثر طول الزمان على الإنسان. فنحن شعب قديم، بل قل إننا أقدم شعوب الأرض، لذا تجد الفرد ميالاً إلى التأمل والخلو إلى ذاته، لكن ذلك لا يعنى الكسل والبلادة بحال، فأمام ضغوط الحياة يجد المصرى نفسه ميالاً إلى التحرك والسعى. ولعلك تلاحظ أن «المزاج النفسى» الميال إلى «الأنتخة» -بالتعبير الدارج- فى البيوت كان له أثر عجيب على الكثير من أفراد الجيل الجديد الذين أصبحوا ميالين للانخراط فى النظم الجديدة للعمل وأداء المهام عن بعد عبر شبكات التواصل الاجتماعى والمؤسسى. ليس معنى ذلك بالطبع أن نغفل حالة الكسل التى تتسم بها الشخصية المصرية، لكن العقل والمنطق يقول إن الشخصية ليست هكذا فى كل الأوقات، فحين تجد نفسها مطالبة بالعمل فهى تعمل وتنتج بشرط أن تجد مردوداً جيداً لعملها. جزء من تاريخ الكسل فى الشخصية المصرية يرتبط بتجربة الفلاح المصرى الذى كان يبذل من جهده وعرقه الكثير فى سبيل إنبات الأرض، ولا يفوز بعد ذلك إلا بالفتات، حيث يذهب الربح الحقيقى إلى من يسيطر عليها أو يملكها، ما أغراه بالكسل والتنبلة، ومهما وجدت من مصريين غارقين فى مواصلة الليل والنهار نشاطاً وعملاً، فاعلم أن أكثرهم يحلم مثل «أدهم» بلحظة يعود فيها إلى «الحديقة والناى».

المصدر :

الوطن

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المولع بالأنس والمتعة المولع بالأنس والمتعة



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon