بقلم: د. محمود خليل
أحد عشر عاماً كانت قد تبقت على نهاية القرن العشرين عندما وُلد عميد الأدب العربى عام 1889.
خلال هذه الفترة كانت كلمة «الهيضة» هى أكثر كلمة تتردد على ألسنة البسطاء من أبناء القرى وعشوائيات المدن، وأيضاً بين الكبار. و«الهيضة» هو الوصف الذى خلعه العرب على وباء «الكوليرا»، أما المصريون فكانوا يطلقون عليه «الشوطة» التى تكتسح البشر. وقد توسع البسطاء فيما بعد فمدوا الظلال الدلالية لـ«الشوطة» لتشمل أى عملية موت جماعى تصيب أياً من مخلوقات الله، حتى ولو كان «دجاجاً» تربيه إحداهن فى حوش أو فوق سطح البيت الذى تعيش فيه.
عادات المصريين فى ذلك الوقت كانت توفر بيئة خصبة للأوبئة كى ترتع فيها، بل وترحب بالعديد من الأمراض كى تتوطن بين أهلها.
كان المصريون حينذاك -شأنهم شأن كافة الشعوب القديمة- يحرصون على أن تكون مقابرهم إلى جوار بيوتهم، ناهيك عن عدم وجود أنظمة للصرف الصحى تساعد على تنظيف البيئة التى يعيش فيها الإنسان، بالإضافة إلى عدم تمكن قواعد النظافة من سلوك الكثيرين.
لم يكن تغيير هذه العادات والتقاليد سهلاً بالنسبة للناس، وقد وُوجه الخديو إسماعيل بغضب كبير من جانب الأهالى وهو يحاول إعادة تخطيط شارع محمد على، حين قرر إزالة مقابر الأزبكية ومقابر المناصرة التى كانت تقع على رأس الشارع.
وإذا كان الحال كذلك فى القاهرة، فلك أن تتصور كيف كان حال القرى فى مصر، وهى المحرومة من أبسط الخدمات التى كان أهل الريف يحسدون عليها «أهل البندر».
طه حسين وُلد ونشأ بإحدى قرى مصر «عزبة الكيلو». وكانت تلك القرية من ضمن مواضع عديدة ضربها وباء الكوليرا عام 1902.
كان ذلك العام من أشد الأعوام قسوة على طفولة العميد، فقد شهد فى نصفه الأول وفاة شقيقته الصغرى (4 سنوات). وشهد نصفه الثانى وفاة أخيه فى وباء الكوليرا.
يصف طه حسين مشهد الوباء داخل عزبة الكيلو قائلاً: «كان صيفاً منكراً فى هذه السنة (1902). وكان وباء الكوليرا قد هبط إلى مصر ففتك بأهلها فتكاً ذريعاً: دمر مدناً وقرى، ومحا أسراً كاملة. وكان الأطباء ورسل مصلحة الصحة قد انبثوا فى الأرض ومعهم أدواتهم وخيامهم يحجزون فيها المرضى، وكان الهلع فد ملأ النفوس واستأثر بالقلوب. وكانت الحياة قد هانت على الناس، وكانت كل أسرة تتحدث بما أصاب الأسر الأخرى، وتنتظر حظها من المصيبة».
وكان لأسرة العميد حظ من مصيبة كوليرا 1902 حين اختطفت شقيقه الذى كان قد حصل على البكالوريا للتو وانتسب إلى مدرسة الطب، وكان من الشهامة بحيث اندفع إلى معاونة طبيب القرية فى مقاومة المرض وتخفيف آلام المرضى داخل خيام العزل، فشاء الله أن يلتقط العدوى، حاول الأب عزل ولده المصاب عن إخوته دون جدوى، فقد كان حبيب الجميع، وعلى رأسهم أخوه الصغير «طه حسين». مات الصبى اليافع فترك فى قلب أخيه العميد جرحاً ممضاً وألماً عميقاً، وسكن يوم وفاته (21 أغسطس 1902) فى ذاكرة العميد كواحد من أشد الأيام بؤساً فى رحلة «أيامه».
تغيرت معالم الأمكنة فوق أرض المحروسة خلال العقود الماضية المتراكمة، لكن عادات البشر فى الإهمال، والهروب من مشوار الطبيب، وعدم الالتزام بإجراءات الوقاية، وغير ذلك من أمور وصفها طه حسين، لم تزل باقية.. ما السر فى ذلك يا ترى؟.. هل السر فى المكان أم فى الإنسان؟.